نهاية الإسلام السياسي كنظرية استشراقية

هل انتهى الإسلام السياسي؟ وماذا تعني النهاية هنا؟ هل المقصود هو نهاية الفكرة التي تربط بين الدين الإسلامي والمجال السياسي العام، الفكرة التي بحسب نقادها، تعمل على توظيف الدين أو الاستفادة منه سياسياً؟ هل يصلح أن يطلق الحديث هكذا على عواهنه، أم أن الأمر يجب أن يتعلق بإطار محدود ضمن زمان ومكان؟
هذه الأسئلة التي تبدو شديدة الآنية ليست وليدة اليوم، وليست مجرد نتيجة لتجربة صعود وهبوط الحركات الإسلامية إبان الموسم الأول للربيع، بل هي أسئلة وافتراضات تعود لعدة سنوات، بل لعدة عقود خلت.
الحديث عن نهاية الإسلام السياسي موجود في كثير من كتابات المستشرقين الجدد، وهو المصطلح الذي أعني به ليس فقط المهتمين بدراسات العالم الإسلامي من الأوروبيين والأمريكيين، ولكن أيضاً من تأثروا بهم وحاولوا أن تكون كتاباتهم امتداداً لمدارسهم ومناهجهم النقدية. باحثون كالأمريكي الإيراني الأصل آصف بيات، الذي يعتبر حالياً، وفي العالم الغربي كما في دول المشرق، من أهم المراجع في مجال التحليل الثقافي للظواهر السياسية.
في مقال أخير نشره تحت عنوان: «من عمرو دياب إلى عمرو خالد» يتحدث آصف بيات بإسهاب عن شخصية الداعية المصري عمرو خالد، ويقارن نجوميته وشهرته وميل الطبقات المختلفة من الشعب إليه بنجومية المطرب عمرو دياب، خاصة لجهة تشابه الرجلين في المظهر الشبابي وحصولهم على عدد كبير من المعجبين. ينطلق بيات من كل ذلك للقول إن ظاهرة عمرو خالد تمثل دليلاً على التحول الذي تعيشه المنطقة، حتى على مستوى المتدينين، من الحركية الراغبة في التغيير العام، إلى الورع الشخصي الذي يستغرق في محاولات الخلاص الفردي، أو بحسب عبارته: «من النزعة الإسلامية إلى الورع ما بعد الإسلامي».
يسهب بيات في بيان أسباب هذا التحول، التي تتنوع ما بين الظرف السياسي وفشل تجارب الإسلام الحركي، ويختم بالقول إن عمرو خالد وزملاءه يعتبرون «محفزين لنمو تدريجي في سياسات التدين». هذا الطرح يذكّر بطرح آخر قدمه فريتز لودج، الأكاديمي المتخصص في شؤون المنطقة، الذي تساءل في مقال له عما إذا كان الإسلام السياسي المعتدل، ويقصد بذلك الإخوان المسلمين، والحركات الأخرى التي ارتضت بالانتخابات والمسار الديمقراطي، قد انقرض. بعد تحليل مسهب يخلص للقول إن هذه الحركات وإن لم تنقرض الآن بشكل تام فإنها لا شك مهددة بالانقراض، تحت ضغط الظروف الإقليمية من جهة، ولصعوبة التعايش جنباً إلى جنب مع الحركات العلمانية من جهة أخرى، مع استثناء خاص لحالتي تونس والمغرب. وإذا كان آصف بيات قد توقف عند تجربة «الدعاة الجدد»، فإن باحثين آخرين توقفوا أمام تجارب الإسلام الصوفي، الذي قد يكون بديلاً مقبولاً عن الإسلام الحركي المنشغل بالفضاء العام. المثال الأبرز هنا والأكثر معاصرة هو الأكاديمي الفرنسي إيريك جوفروا الذي كتب عدة كتب في التصوف الإسلامي، كان من أهمها الكتاب الذي طرح فيه التصوف كبديل للإسلام السياسي، والذي ترجم تحت عنوان «المستقبل للإسلام الروحاني»، في حين كان عنوانه الأصلي الذي جاء بصيغة أقرب إلى التهديد يلخص كل شيء: «سيكون الإسلام روحياً، أو لن يكون».
أما بيات فقد بدا مؤمناً بانحسار الأدبيات الإسلامية منذ وقت سابق على التطورات السياسية الأخيرة في المنطقة، حيث كان قد نشر في عام 1996 أحد أوراقه التي اكتسبت شهرة والتي جاءت تحت عنوان: «قدوم المجتمع ما بعد الإسلاموي». كان بيات ينطلق في ورقته تلك من الحالة الإيرانية، التي رأى أنها في طريقها لتجاوز الشعارات الثورية الإسلامية بعد أن استنفدت أغراضها وبدأت في بناء الدولة الحديثة. مستشهداً بولادة تيار إصلاحي جديد «ما بعد إسلاموي». تحدث بيات عن الرغبة الشبابية الجارفة في تجاوز الدوغمائية التي ارتبطت بالعشرية الأولى من الثورة، وما اشتملت عليه من حالة استنفار فرضتها ظروف الحرب مع العراق.
قراءات أصف بيات لمسار الحركات الإسلامية العربية، شابها الكثير من القصور الذي كان أبرز ما فيه وضع هذه الحركات، السنية في معظمها، في طبق واحد مع الحركة الثورية الشيعية في إيران، وهو خلط متكرر وشائع ساعد فيه وقوّاه الكثير من رموز هذه الحركات من الذين رأوا، بشكل يصعب فهمه الآن، في نجاح الثورة الخمينية تبشيراً بنجاح المشروع الإسلامي الكبير.
أكثر من ذلك فإن نبوءة بيات حول الواقع الإيراني نفسه لم تكن موفقة، حيث أن النظام الإيراني تمسك أكثر بشرعيته الدينية التي أعطاها الأولوية على حساب لعبة الديمقراطية والانتخاب، كما أثبتت الأيام أن ما بدا وكأنه تيار إصلاحي داخلي قوي داخل إيران لم يكن سوى وهم مهمته إضفاء بعض التوابل على مسار سياسي معطوب، رغم ذلك فإن الحديث عن نهاية الإسلام السياسي أو مرحلة ما بعد الإسلاموية ظل رائجاً. يمكن أن نجد صدى ذلك في كثير من كتابات الباحث الفرنسي الأشهر في هذا المجال أوليفييه روا الذي اعتبر أن الطريق مغلق أمام الممارسة السياسية للجماعات الإسلامية، وأنه حتى في الحالات التي يسمح لها فيها بذلك فإنها لن تتمكن من الوصول إلى السلطة، أو ستفشل في البقاء فيها. في الوقت ذاته فإن التوجه نحو العنف ليس بديلاً منطقياً، فهو ليس سوى خيار عدمي لن يؤدي إلا لمزيد من الاستئصال والتضييق، لكل هذا فإن البديل، بحسب روا، قد يكون حركة سياسية إسلامية/ علمانية تطبق نظاماً أقرب للتجربة التركية.
حينما بدأ أوليفييه روا بنشر هذه الأفكار كان ذلك متماشياً مع دعوات أخرى مشابهة، تحث الدول والحركات الإسلامية على قبول «الإسلام التركي» المتصالح مع العلمانية والقيم الغربية كمثال ونموذج. كان ذلك في مرحلة سابقة للتحول الذي طرأ على الدولة التركية، والذي جعل شعبية رجب أردوغان «الإسلامي» تنافس، أو لعلها تتفوق، على الشعبية والرمزية التاريخية التي حظي بها مؤسس الجمهورية العلمانية الحديثة كمال أتاتورك. في غضون سنوات قليلة، وبخلاف الكثير من التوقعات، استطاعت تركيا استعادة هويتها الإسلامية، فلم يعد الحجاب ممنوعاً ولم يعد المتدينون يعانون الإقصاء أو التهميش. تركيا نفسها التي كانت محاطة برعاية غربية ومقدمة كنموذج للتصالح بين الإسلام والديمقراطية تغيرت وأصبحت علاقة الدول الغربية معها متذبذبة يغلب عليها التوتر والتشكك.
استوجب كل ذلك أن يعيد الدارسون الغربيون النظر وأن يكفوا عن الدعوات لأخذ تركيا الصاعدة كمثال، أو بشكل آخر لحصر دعوتهم على مثال تركيا الأتاتوركية التاريخية. من الأسماء التي يمكن اعتبارها امتداداً لهذه الرؤية الأكاديمي الفرنسي جيل كيبل صاحب كتاب «الجهاد» وعرفان أحمد صاحب «الإسلاموية والديمقراطية في الهند» حيث تدور أفكار الكتابين حول ملاحظتهما عن تحول هدف الجماعات والحركات الإسلامية من الدولة إلى المجتمع، ومن التشدد والجمود إلى التعددية والانفتاح، ما يعني بشكل ما تصالحاً مع الحداثة، أو حتى، بشكل من الأشكال، مع العلمانية.
عاد آصف بيات إلى رؤيته الأولى مجدداً عام 2013 حين قام بتحرير الكتاب الصادر عن أكسفورد الذي سيلقى لأعوام تالية رواجاً ملحوظاً وهو: «ما بعد الإسلاموية، الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي». في هذا الكتاب لن يكتفي بيات بطرح رؤيته ولكنه سيجمع مجموعة من الباحثين من أكثر من بلد مسلم وسيدعوهم لعرض تجارب بلادهم المختلفة. يوضح الكتاب إلى أي مدى تختلف مسارات وسياقات العمل الإسلامي بين كل بلد وآخر، ولعل أهم خلاصة فيه هي تلك التي ترى استحالة إخضاع العالم الإسلامي كله بكل تعقيداته وتقسيماته إلى التأطير ضمن نظرية واحدة.
أما جيهان توغال، الباحث والأكاديمي التركي، فيعلق على الخلاصات بشأن بلاده قائلاً، إن الحديث عن «مرحلة ما بعد الإسلاموية» والتنظير المتعلق بانحسار الإسلام وتراجعه في المجالين الاجتماعي والسياسي لا يمكن تطبيقه على الحالة التركية التي يبدو واضحاً أنها لا تعيش مرحلة تجاوز الإسلام، بل على العكس، هي تمثل حركة باتجاه آخر نحو المحافظة والتقليدية.
كاتب سوداني

نهاية الإسلام السياسي كنظرية استشراقية

د. مدى الفاتح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود:

    الإسلام لا يدير السياسة فقط بل الإقتصاد والحياة الإجتماعية والعدالة والحرية وحقوق الإنسان
    ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية