نهاية غير سارة لمشروع النهوض الشيعي!

ليس ثمة شك أن المشرق العربي ـ الإسلامي يشهد، منذ الثمانينيات، حراكاً شيعياً واسع النطاق. في أكثر من كتاب، وصف علماء سياسة متخصصون، مثل يتسحاق نقاش وولي نصر، هذا الحراك متعدد الأوجه بالنهوض الشيعي. خلف هذا الحراك، أو النهوض، كان التقاء عدد من العوامل والقوى؛ أهمها، بالطبع، انتصار الثورة الإسلامية في إيران، بقيادة آية الله الخميني، رجل الدين الشيعي، وقوة الدين التحررية التي حملتها وأطلقتها الثورة في إيران. قاد الخميني الشعب الإيراني، بخطاب ديني واضح وصريح، ضد استبداد عميق الجذور، يعود في أصوله، ربما، إلى لحظة التأسيس الأولى لكيان الدولة الإيرانية في مطلع العهد الصفوي. وبالتفاف الشعب الإيراني، طوال شهور الثورة، خلف قيادة دينية، لم يعد ممكناً، لا في الشرق ولا في الغرب، الحديث عن الدين كأفيون للشعوب، أو باعتباره مسوغاً محافظاً لأنظمة الاستبداد والقهر. تركت الثورة أثراً واسع النطاق على الساحة الإسلامية برمتها، وعلى الساحة الشيعية بوجه خاص. وخلال العقود التالية، أصبحت الجماعات والتنظيمات الإسلامية الشيعية، التي كانت تحرص من قبل على تقديم صورة إسلامية جامعة، أكثر شيعية.
ويتعلق العامل الثاني بالصعود غير المسبوق في المشرق، كما في أنحاء أخرى من العالم، لسياسات الهوية. والحقيقة، أن مظاهر قلقلة لهوية شيعية بدأت في البروز منذ نهاية القرن التاسع عشر، أولاً، بفعل ترسيخ مؤسسة المرجعية أقدامها، والتفاف نسبي لعامة الشيعة حول الفقهاء. وثانياً، لردود الفعل الشيعية الدينية على تيارات التحديث القاجارية والعثمانية، وما واكبها من مؤثرات غربية ثقافية واقتصادية على حياة المسلمين ومعاشهم. ولكن التقدم الهائل في وسائل الاتصال، المطبوعة والمسموعة والمرئية، في الربع الأخير للقرن العشرين وفر، بلا شك، مجالاً أوسع لتعبيرات الهوية الشيعية.
أما العامل الثالث، فيتصل بمجمل المتغيرات السياسية الكبرى التي شهدها المشرق منذ ما قبل نهاية الحرب الباردة بقليل، وما بعدها. كان لاندلاع الحرب ـ العراقية الإيرانية أثراً بالغاً على اللحمة قصيرة العمر للوطنية العراقية؛ ولم تلبث نتائج حرب الخليج الأولى، والعقوبات التي فرضت على العراق، أن أوقعت ضرراً بالغاً بالدولة الوطنية العراقية وقدرتها على احتضان شعبها وتمثيله. واكب هذه التحولات في العراق احتلال سوفياتي في أفغانستان واحتلال إسرائيلي في لبنان، دفعا بقوتهما الذاتية، من جهة، ونظراً لمحاولة إيران تعزيز نفوذها الإقليمي، من جهة أخرى، إلى بروز مقاومات ذات صفة شيعية. في معظم الحالات تقريباً، سواء في العراق ولبنان وأفغانستان، أو في غيرها من بلدان المشرق، حملت الحيوية الشيعية توجهاً تحررياً معارضاً للاستبداد والاحتلال الأجنبي. خلال الفترة بعد 2001، لم يكن على القوى الشيعية السياسية بذل كثير من الجهد لتمسك بمقاليد الحكم والدولة في عدد من البلدان، بعد أن عملت سياسة الحرب التي اتبعتها الولايات المتحدة على تمهيد الطريق لصعود شيعي سياسي غير مسبوق في العراق ولبنان وأفغانستان، وإيقاع خلل إقليمي كبير في ميزان القوى لصالح إيران.
ولكن نتائج هذا الصعود كانت بالغة الضرر على التشيع وآمال التحرر التي حملها الحراك الشيعي السياسي.
في إيران نفسها، ساعدت التهديدات التي مثلتها الحرب مع العراق، والمعارضة الداخلية المسلحة في الثمانينات، على بروز حثيث للجوهر الاستبدادي، الذي استبطنته النظرية الشيعية السياسية على حساب آمال العدل والحرية التي حملتها الثورة في نهاية السبعينات. وربما كان تزييف نتائج انتخابات الرئاسة، والقمع الذي واجهت به الدولة المظاهرات الاحتجاجية، في 2009، مجرد توكيد لطبيعة التحول الذي شهدته الجمهورية منذ الثمانينات. في لبنان، لم يكن خافياً أن سيطرة حزب الله المسلحة على العاصمة بيروت في ربيع 2008 أشرت إلى أن الحزب في طريقه إلى تقديم الأولوية للطائفي على الوطني اللبناني، وعلى الإسلامي، معاً. ولكن كابوس الصعود الشيعي لم يتجل في مكان كما تجلى في العراق وسوريا.
على خلفية من تحالفها مع القوات الأنكلو ـ أمريكية الغازية، سلمت مقاليد العراق فعلياً منذ 2003 للقوى السياسية الشيعية. اليوم، بعد 13 عاماً من التحكم في مصادر السلطة والثروة، ليس ثمة ما يدعو للاعتزاز في ميراث السيطرة الشيعية السياسية. تحولت الدولة العراقية، التي حرصت كل الأنظمة السابقة على طابعها الوطني، إلى مؤسسة فتك طائفية، تمييزية هائلة؛ وتحولت الطبقة الشيعية الحاكمة، التي قدم أغلب عناصرها من المنفى، إلى عصابة من اللصوص، لم ير العراق لها مثيلاً حتى في أكثر لحظات تاريخه سواداً. عشرات مليارات الدولارات من المساعدات الأجنبية، ومن حصيلة الثروة النفطية العراقية، انتهت إلى حسابات حكام العراق الجدد الأجنبية. ولم تحرم مناطق الأغلبية السنية، وحسب، من أي جهد تنموي ملموس، بل حتى أوضاع مناطق الأغلبية الشيعية تبدو اليوم أسوأ مما كانت عليه قبل الغزو وصعود الطبقة الشيعية السياسية إلى الحكم. في 2006 ـ 2008، شهد العراق حرباً أهلية ـ طائفية، أشرف على اشتعالها وزراء ومسؤولون حزبيون كبار في القوى الشيعية الحاكمة. ولم تكد نيران الحرب أن تخمد، حتى أشعل رئيس الحكومة المالكي حرباً طائفية من نوع آخر، سعى من خلالها على تدمير كل الشخصيات السنية السياسية الفاعلة، وتعزيز سيطرته على الحكم والدولة. ومنذ 2012، دفع العراق إلى حرب أهلية جديدة، أداتها الرئيسة ميليشيات طائفية، منحت، بدون أي مسوغ قانوني أو دستوري، شرعية الدولة.
ولم يكن دور إيران والقوى الشيعية السياسية في سوريا أقل سوءاً. فمنذ انطلاق الثورة الشعبية في سوريا، وفرت إيران والقوى الشيعية الرئيسة الغطاء لسياسة القمع الدموية التي تعهدها نظام الأسد لشعبه. ومنذ 2012، وحتى قبل أن تدخل النصرة وداعش ساحة الصراع، كانت قوات حزب الله تخوض معارك رئيسة ضد الثوار السوريين المسلحين، تحت شعار محاربة الإرهاب أو حماية أضرحة مقدسة شيعية. خلال السنوات التالية، حشدت الميليشيات الشيعية من كافة أنحاء العالم، إلى جانب قوات حزب الله والحرس والجيش الإيرانيين، لحماية النظام الفاشي في دمشق، مرتكبة كل الموبقات الممكنة ضد أبناء الشعب السوري.
ثمة إرهاب وقتل بلا تمييز وعنف أهوج تمارسه تنظيمات سنية بالتأكيد، تنظيمات لا تقل طائفية عن مثيلتها الشيعية. ولكن الفارق بين ما تشهده الساحة الشيعية وما تشهده الساحة السنية كبير. تعيش التنظيمات السنية الطائفية والمتطرفة ما يشبه العزلة الكاملة عن محيطها الشعبي، وقد رفع كبار العلماء والشخصيات العامة الإسلامية السنية عنها الغطاء، بل وشجعوا على مقاومتها وحربها. في المقابل، وطوال سنوات من التحلل والانحدار في سلوك وخطاب القوى الشيعية السياسية، تكاد الأصوات الناقدة لسلوك وخطاب التشيع السياسي تغيب كلية. وليس ذلك بمستغرب؛ فالسياسات الطائفية التي تتعهدها مؤسسات الدولة في إيران والقوى الشيعية السياسية خارجها مؤيدة من قبل أعلى المرجعيات الدينية والسياسية الشيعية مرتبة. ثمة أدلة مصورة بالغة البشاعة على ممارسات الحشد الشعبي في العراق، وممارسات الميليشيات الشيعية في سوريا، لا يجب أن يقرها أي ضمير إنساني. ولكن أحداً لم يسمع من المرجعية الشيعية في العراق، التي شكل الحشد الشعبي بدعوة منها، أو المرجعية الشيعية في إيران، التي توفر الغطاء الديني لنشاطات الميليشيات الطائفية في سوريا، أي شجب أو نقد أو مراجعة.
وهذه هي المأساة في هذا كله. فالأسئلة حول نهج الطائفة ومصيرها لا تتعلق بالهامش، وحسب، بل والرؤوس والسراة، كذلك. وهذا، أيضاً، ما يطرح أسئلة ثقيلة الوطأة حول مستقبل الجماعات الوطنية وعلاقات الطوائف في المشرق.

٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

نهاية غير سارة لمشروع النهوض الشيعي!

د. بشير موسى نافع

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سلام عادل:

    اما ما حصل في العراق فيتحمل مسؤوليته الجميع من الكتل السياسية العراقية بالاضافة لدول الجوار العراقي التي ارادت عراق ضعيف بعد سقوط النظام السابق وكذلك الخوف من حصول نظام ديمقراطي حقيقي وانتخابات حقيقية مما يسبب لها المتاعب لاحقا وكانت الفتنة الطائفية على يد الزرقاوي الذي وجد فيهالساسة من سنة العراق فرصة للمساومة والحصول على امتيازات اكثر بالمقابل وجد فيه ساسة الشيعة فرصة لالتفاف الشيعة خلفهم .(وكانت فرصة لكل الكتل وسياسيها لنهب ثروة البلد بسبب فوضى الحرب مع اازرقاوي ثم البغدادي.

  2. يقول ناظم المهايني أمريكا:

    أنا أتفق مع السيد رزوق بأن المشكله تكمن فينا. وكما تكونوا يولى عليكم. لقد صمتناوقبلناباﻷمر الواقع مدة طويلةكما أننا ركضنا خلف الشعارات الزائفة والطنانه ورضينا بأن يحكمنا العسكر إلى أن بدأو بتأسيس عائﻻت وعصابات حاكمه كما حصل في العراق وسوريا . وأكبردليل على عدم وﻻء هذه الغئة للوطن لم يتوانوا عن تدمير البلد في سبيل البقاء في الحكم. والفئة الجديده لم تكن أفضل حيث مارست نفس طريقة الفساد والقمع.كما أنها اشتركت في تدمير الوطن. كفانا القاء اللوم على اﻵخرين. المستفيد اﻷول واﻷخير في هذه الحاله هو اسرائيل. حيث لم يتبقى لدينا عسكر تهدد كيانها.لقد نفذ السﻻح والحرب ضد الشعب بدﻻ من الحرب ضد اسرائيل.

  3. يقول د. سامي عبد الستار الشيخلي سويسرا:

    تحية شكر لكاتب المقال والسادة المعلقين. يبدو أننا لم نستطع تحليل البنى الثقافية والسياسية والدينية لعقلية تربية الفرد العربي منذ دخوله المدرسة حتى تسلمه السلطة بأية وسيلة ممكنة ومقدار المؤثرات الدخيلة عليه كمّا ونوعا بعدة وسائل. الفرد جزء من إنتاج مجتمعه أي بيئته الحاضنة. ويبدو أن الصراع الديني والعلماني على السلطة هو الهدف الاسمى فيتسلم الحكم الفرد الطاغية ليجمع الحاشية “بنماذج متعدة الاسماء والاشكال والمراتب” كنظام القبيلة ضد الاخرين. فالثقافة والعلم الاوروبي الوارد الى مجتمعنا العربي المعاصر قد عَرّى التربية النفسية العربية عبر طل عصورها في الخلافات الدينية والمذهبية والشخصية على تفاهات الآراء وليس لخدمة الامة والوطن والمجتمع بنكران الذات ومن قام ويقوم بها يُزاح بكل وسيلة بشتى التُّهم الجاهزة. أي أنَّ الدين الاسلامي أضحى قشرة في تربية الفرد العربي قشرة بعدة أبعاد في جسد الفهم والتطبيق الحق والتقوى الا ما ندر ويندر.يُضاف لذلك دوران الرؤوس في أفلاك المصالح والمكاسب القادمة بدعم خارجي وتهب داخلي كسماسرة لأجل العيش والخروج من بحبوحة الفقر بظروفهم القاهرة. فأين علماء وأساتذة وفقهاء وسياسيي ووجهاء وقواد هذه الامة من وعي الواقع المحيط بهذة الامة المنقسمة لعدة اتجاهات لا تخدم بل تهدم. أربع دول عربية يتم تهديمها كل يوم والجميع صامتو يشاهدون في الاخبار وهم مُكبلون والغزو الامريكية والسوفيتي بالتعاون الايراني يغزوهم والجميع صامتون راضوان يتسامرون على المءآسي اليومية ونزوح كل الطاقات في اصقاع الارض هربا من الجحيم. لابد ان شباب هذه الامة غافلون بسيطرة آبائهم على تجارة المؤن للعيش الدنيوي على حساب الظلم المجتمع ونهب طاقات الوطن المريض بنُخب أهله. قلبي في وطني وجسدي في غربتي وأملي شفاء اهل الوطن من أمراضهم الخائبة في مخيلاتهم بلا دراسة فهم واقعهم العسير المُكَبل بالطواغيت بعدة مفاهيم بلا تربية الذات بالحق والعدل والعلم المُنير بنكرات الذات لخدمة المجتمع والوطن قيم الدين السمحة في صدق التعامل بين النَّاس لخدمة الجميع. فالمجتمع الغربي يطبقها على نفسه فلماذا نحن نتغابى عن ذلك؟ فلا بد من وجود خَللٌ فينا تأريخيا وإجتماعيا وفي سياسة الفرد ذاتيا. فما قيمة التَّعَلُّم في المدرسة والجامعة وممارسة التخلف في التعامل الصحيح بإسلوب سليم.يبدو ذلك غباء عند الشياطين.قل ما قيمة الانسان عندنا؟

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية