لا وجود لهذا النهر في تضاريس كوكبنا، فهو ليس رابع الثلاثة الأمازون والنيل والمسيسيبي، لأنه بلا منبع وبلا مصب، اللهم إلا إذا كان منبعه خيال كاتب أو روائي ومصبه على الورق.
والحكاية هي أن فنانا تشكيليا اجتذبه التجريد وعانى من شحة في إقبال الناس على معرضه، وكان يحلم ببيع لوحاته بأثمان عالية، فاهتدى إليه سمسار نصحه بأن يجيب من يسأله عن أي لوحة قائلا: أرأيت في حياتك نهرا، عندئذ ستبتكر عينا المشاهد نهرا حتى لو كان مجرد ظل أزرق، إما درءا لاتهامه بالجهل أو لأنه بالفعل صدّق أن السراب ماء. بالطبع لم يقل موباسان أو بطل قصته ما قاله ذلك الموسيقي الحصيف الذي سُئل عن معنى مقطوعة موسيقية فقال أن افضل أسلوب لشرحها والتوصل إلى دلالاتها هو إعادة عزفها، وكذلك اللوحة، فهي لا تترجم من ألوان وظلال وأبعاد إلى مفردات، وأفضل أسلوب لشرحها هو إعادة النظر إليها.
وتذكرني تلك الحكاية بما قام به صحافي مصري في ستينيات القرن الماضي حين علّق في مكتبه لوحة مقلوبة، وادعى أنها لواحد من أبرز فناني عصرنا، وبالفعل صدق من كانوا يسألونه عن اللوحة ذلك، ومنهم من كتب عنها وهو لا يعي بأنها مقلوبة.
وما أتاحه التجريد في الرسم اتاحه الهذيان اللغوي في الشعر، إذ نادرا ما نسمع شاعرا يقول ما قاله بيكاسو عن لوحته الخضراء، وهي أشبه بشلال من اللون الأخضر، قال بيكاسو إنه كان يتمشى لعدة ساعات في حقول خضراء شديدة الاخضرار، بحيث يوشك اللون الأسود أن يتدفق منها، وحين عاد إلى مرسمه شعر بأن عينيه اتخمتا من اللون الأخضر لأنه فاض عن قدرة الاحتمال وكل ما فعله هو أن رسم شلالا من اللون الأخضر.
لن نعود إلى أبي تمام وما قاله لمن اتهمه بقول ما لا يفهم، فهناك بالمقابل من لا يفهم ما يُقال، وهذه الأحجية تفضي إلى متوالية سجالية على غرار البيضة والدجاجة أيهما أسبق، لكن من ليس لديهم ما يُقال وجدوا في حكاية ذلك الفنان الذي وزع النهر السرابي بين لوحاته ذريعة، وهناك بالطبع من صدقوا أن القصائد أو ما يكتب تحت هذا العنوان الأشبه بمظلة تجري فيها أنهار، والحقيقة أنها تفتقر إلى قطرة ماء واحدة!
* * *
قد يكون صحيحا ما يروى عن الشاعر أودن، فقد قال لشاعر شاب إذا كان لديك ما تقول فأنت لست شاعرا، لأن الشعر لا يطيق مثل هذه الحمولة، وثمة من أنواع الأدب ما هو أولى بها، لكن ما قاله أودن ليس إقصاء للمعنى في الشعر، بقدر ما هو مفاضلة بين التصريح والتلميح، فالشعر يوحي ولا يقول، وهذا أيضا ما عبّر عنه إليوت في نظرية المعادل الموضوعي التي توصّل إليها من خلال قراءته لمسرحية هاملت، فالشاعر حين يقول أنا حزين لا يقدم شعرا، لكنه يقدمه إذا قدم مناخا وقرائن توحي بالحزن، لكن هناك حدودا للإيحاء والتلميح بحيث لا ينقطعان تماما عن المعنى وهو المشترك الإنساني الذي لا بد من الحفاظ عليه، وهذا ما دفع شاعرا وناقدا مثل ارشيبالد ماكليش إلى القول بأن بإمكان الشاعر أن يتحدث عن طائر مثلا، شرط أن تكون هناك قرائن لهذا الكائن وبدون ذلك فإن الطائر يفرّ من القصيدة ساخرا من الشاعر الذي حاول اصطياده بشبكة من المفردات.
وهناك مراحل غالبا ما تتزامن مع خريف حضاري ينصرف فيها الشاعر عن المعنى تماما، بل يبذل جهدا لكي لا يقول شيئا على الإطلاق، وفي مثل هذه المراحل تزدهرالشكلانية على حساب الرؤية والخبرة الجمالية، ولدينا في تاريخنا الأدبي مراحل من هذا الطراز، كان الشاعر فيها يبذل جهدا كبيرا لرسم قبر بالكلمات، لكن ليس على طريقة السورياليين، فالشاعر الشكلاني فقير الروح وشحيح الموهبة رسم قبرا ودفن فيه. أما السوريالي الذي رسم شراعا بتكرار كلمة شراع أوsail فقد كان مدهشا عندما وظّف الرّسم لصالح المعنى فكانت قصيدة الشراع إيحاء بالإبحار والتلاشي في الأفق لأن سطور القصيدة تناقصت وكأنها تأكل نفسها وانتهت بكلمة واحدة.
لن أذهب إلى ما هو أبعد في هذا السياق لأن هناك تجارب بلغت حدا من الغرائبية يصعب وصفه، بحيث اكتفى شاعر تجريبي بأن يواصل السعال لعدة دقائق ويسمي قصيدته نوبة سعال!
* * *
في قصة موباسان ثمة سخرية شديدة من غياب المعنى، سواء في قصيدة أو لوحة لهذا كان على السمسار أو الوسيط بين الرسام والجمهور وهو في هذه الحالة البديل للناقد أن يسكب نهرا في لوحة أشبه بصحراء، ثم تنتقل عدوى هذا الهذيان إلى المتلقي فيصدق أن ما يراه هو نهر بالفعل!
والمطلوب منا قراء ونقادا أن نبلع الطعم الذي وضعه ذلك السمسار في اللوحة، وبالتالي أن نصدق ما يقوله الشاعر خارج قصيدته، ويبدو أن البعض أساءوا فهم طروحات حول الشعر، منها ما قاله سارتر في دراسته عن بودلير وهو أن الشعر ينشأ لحظة كتابته ولا تسبقه افكار ناجزة، ولهذا استثنى سارتر الشعر من نظريته حول الأدب الملتزم.
نحن نقرأ أسرابا من الكلمات على الورق أو عبر الإنترنت يصنّفها أصحابها في خانة الشعر، ومنا من يسهل خداعه أو ابتزازه، بحيث يقال له ألم تَر في حياتك نهرا، فيشعر بالخجل من قصوره في التلقي ويسكب نهرا لا منبع له ولا مصب!
أما المفارقة فهي أن من ينحازون بشكل يقترب من الايديولوجيا إلى ما يُكتب تحت عنوان الشعر، وهو لا يتجاوز نوبة ضحك أو سعال نسمعهم أحيانا يرددون مقاطع من قصائد مفعمة بالمعنى وغنية بالإيحاءات والدلالات، وقد نقبل بانحسار النقد باعتباره إفرازا حضاريا معقدا في مرحلة ما، لكن ما لا يقبل على الإطلاق هو أن يصدق الناقد بأن ما يراه أو لا يراه في نص ما هو نهر.
إنّ من صدقوا أعينهم الكليلة وهي تبتكر السراب ماتوا عطشا ولم يغسلوا موتاهم أو حتى يستحّموا!
كاتب أردني
خيري منصور
نهر موباسان ممكن تعميمه على كثير من نواحي الحياة ولا أصدق من المثل الشعبي الذي يجسد تصدير الوهم ” عنزة ولو طارت” للاصرار على الشيئ حتى لو لم يكن موجودا. أصبحنا نعيش بواقع ينغل بكتاب وشعراء وهم ليسوا بكتاب ولا شعراء ولا ندري اذا ساوت كلماتهم ثمن الحبر اذا وجدت طريقها للطباعة. هناك فوضوية بحالة غياب النقد الذي اسبح بحاجة لمن ينقده. فالنقد اصبح لا يفرق بين القبرة والغراب. وهناك مفارقة ان الادب لم يجد من يقرأه فهل ممكن أن يجد النقد طريقه الى القراءة. نهر موباسان يجد ماوى بالخارطة الذهنية مثله مثل الكثير من الحقائق التي نعيشها ونتعامل معها رغم عد وجودها.
وإليكَ، يا أخ خيري، بهذه القصة الواقعية:
في يوم من الأيام، أراد رسامٌ، من رسامي القرن الماضي، أن يسخر من نُقَّاد عصره بطريقة طريفة لم يسبق لها مثيل. وما إن أتته الفكرة الماكرة حتى أحضر سطلاً متوسطَ الحجم، وملأه بمزيج من الدُّهان الملون الذي كان يستخدمه في الرسم، ثم اقترب من حماره الوديع، من جهة الخلف، وغمَّس ذيلّه في هذا السطل، فأحضر أيضًا لوحةَ قنَّبٍ بيضاءَ لا شِيَةٌ عليها وقرَّبها من ذيل الحمار، على بعدٍ كافٍ نسبيًّا. وعندما بدأ الرسامُ يهمز الحمارَ من على ردفيه بهمزاتٍ خفيفة، شرع الحمارُ يحركُ ذيلَهُ بكافة الاتجاهات، فشرع يترك آثار الدُّهان الملون على لوحةَ القنَّب البيضاء، بصورة عشوائيةٍ تمامًا.
وبعد بضعة أيام، عرض الرسامُ “اللوحة” التي “رسمها” الحمارُ بذيلهِ، فعليًّا، في أحد المعارض. وتعال يا أخ خيري وشوف النُقَّاد المساطيل واندهاشهم النفسي واللغوي و”الفكري” الذي لا يفوقه اندهاشٌ حينما أخذوا يمعنون النظر إلى هذه “اللوحة”. فمنهم من قال عنها «قنبلة الموسم الكاسحة»، ومنهم من قال عنها «معجزة القرن العشرين»، ومنهم من قال عنها «أُعجوبة الدنيا الثامنة»، إلى آخره من هذه العبارات.