يشارك التونسيون جيرانهم الليبيين القلق والانزعاج من فشل الحوار الوطني في الصخيرات في الوصول إلى حل يرضي الأطراف المتصارعة، بعد أن رفض برلمان طبرق التشكيلة الحكومية التي قدمها برناردينو ليون، والتي كان من المفروض أن يكون على رأسها فايز السراج المحسوب على جماعة طرابلس، وذلك بتعلة أن التركيبة فرضت فرضا من رعاة حوار الصخيرات، ولم يقع التفاوض بشأنها بين المشاركين في الحوار.
فالارتباط وثيق بين الشعبين الجارين وما يحصل هناك يؤثر هنا والعكس صحيح، ولا معنى لأي تحول ديمقراطي أو إنجاز سياسي يحصل في تونس مادامت ليبيا مضطربة، غارقة في العنف، ولم تعرف الاستقرار بعد. فالفوضى يمكن أن تنتقل إلى الخضراء في أي حين، بحسب العارفين بشؤون المنطقة، لتعصف بما تم إنجازه من توافقات مكنت البلاد من الخروج من مرحلتها الانتقالية، بعد إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة وشفافة نهاية العام الماضي. وذلك بعد أزمة خانقة واغتيالات سياسية غير مألوفة في الساحة السياسية التونسية، أعقبها حوار شاق رعاه رباعي من المجتمع المدني يتقدمه الاتحاد العام التونسي للشغل، أوصل البلاد إلى بر الأمان، واستحق هذا الرباعي لأجل ذلك مؤخرا جائزة نوبل للسلام.
ولعل ما يزيد من قلق التونسيين هو أنباء لم يقع التأكد من صحتها، وأحاديث تتداولها الألسن ومواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية، انتشرت انتشار النار في الهشيم، تتحدث عن أن تنظيم «داعش» بات قاب قوسين أو أدنى من البوابات الحدودية التونسية مع الجار الليبي. وأن ما يطلق عليه البعض اسم «تنظيم الدولة» يضع أرض قرطاج والقيروان ضمن أهدافه، ويسعى إلى وضع موطئ قدم فيها باعتبارها من ناحية الجغرافيا تكاد تلامس القارة العجوز في جزئها الإيطالي، ومن الناحية التاريخية كانت مستقر الفتوح الإسلامية القادمة من المشرق، من خلال مدينة القيروان التي أسسها عقبة بن نافع منذ القرن الأول للهجرة، والتي لعبت أيضا دور قاعدة الانطلاق باتجاه إخضاع «الفاتحين» العرب لشعوب أقاصي بلاد المغرب، فالأندلس. فليس من باب الصدفة أن يختار تنظيم «أنصار الشريعة» التكفيري حاضرة الإسلام الأولى في بلاد المغرب ومركز إشعاعه العلمي، مدينة القيروان التونسية، ليعقد مؤتمره الأول سنة 2011 قبل أن يتم منعه رسميا من النشاط وتصنيفه كجماعة إرهابية تشكل خطرا على الأمن العام. كما أن أشرس التنظيمات التي استهدفت عناصر الأمن والجيش التونسيين تطلق على نفسها تسمية «كتيبة عقبة بن نافع»، في اقتباس من المعجم التاريخي الديني لأفريقية (تونس الحالية) وسائر بلاد المغرب، وإبراز لأهمية تونس وقيروانها من الناحية الروحية لهذه الجماعات التي تدعي الارتباط بالسلف الصالح.
ولعل ما يدعم هذا الرأي هو الضربات الموجعة المتتالية التي تتلقاها تونس في الآونة الأخيرة من قبل هذه الجماعات، سواء تلك التي تطال عناصر جيشها وأمنها أو تلك التي تستهدف اقتصادها الوطني وتحصد أرواح مواطنيها وزوارها على حد سواء، والتي تبنى بعضها تنظيم «داعش» فيما تبنت «كتيبة عقبة بن نافع» البعض الآخر منها. فهناك اهتمام لافت بتونس مثير للانتباه من قبل هذه الجماعات، رغم أن الخضراء بقيت لسنوات قبل اندلاع «ثورتها» عصية على التنظيمات التكفيرية الجهادية التي تمكنت من دول جوارها وأدخلت بعضها في أتون عشرية سوداء لم تخرج منها إلا بشق الأنفس، ومازالت جراحها لم تندمل إلى الآن.
ويرى البعض أن خطر «داعش» قائم أيضا في الداخل التونسي، خاصة مع انتشار الأفكار التكفيرية الهدامة في صفوف الشباب التونسي اليافع الذي يقبل على الإنخراط بأعداد لافتة في الجماعات الإرهابية، ما يجعل الخضراء تحتل مراتب متقدمة في قائمة الدول المصدرة للإرهابيين على مستوى العالم. وبالتالي فالخشية يجب أن تكون أيضا من الداخل، من الخلايا النائمة في الحواضن التكفيرية في الأحياء الشعبية داخل المدن الكبرى التونسية، وفي الجهات الداخلية المهمشة، وليس فقط من ليبيا المجاورة التي تغيب فيها الدولة تماما أو تكاد وتنتشر فيها الجماعات المسلحة المتصارعة.
لذلك فإن المساهمة في حل الخلاف الليبي يجب أن تكون أولوية لدى التونسيين في سياستهم الخارجية خلال الفترة المقبلة، خصوصا إذا فشل حوار الصخيرات في الوصول إلى حل جذري مثلما توقع الرئيس التونسي في حواره الأخير لإحدى القنوات المحلية. لأن ليبيا ليست دولة في أقاصي الأرض أو في كوكب قصي في إحدى المجرات ولا مجرد جار، شاءت الجغرافيا كما حقب التاريخ المتعاقبة والحدود الموروثة عن الاستعمار أن ينتصب في التخوم الجنوبية الشرقية للخضراء، بل هي مجال حيوي وقاعدة خلفية لتونس وعمق استراتيجي لشعبها تماما مثل الجزائر.
فنوبل للسلام، الذي اعتبره البعض اعترافا دوليا بنجاح التجربة التونسية وتتويجا للمسار الانتقالي، الذي استحقه رباعي المجتمع المدني التونسي الذي رعى الحوار الوطني الذي قاد إلى انتخاب مؤسسات الدولة الدائمة بعد مخاض سياسي عسير، قد يغرق في رمال ليبيا المتحركة أو في أوحال خلايا الداخل النائمة، ما لم تقم الدولة التونسية بتحرك سريع للمساهمة في حل الأزمة الليبية مع دول الجوار بالتوازي مع محاربة الظاهرة الإرهابية في الداخل محاربة أمنية وثقافية تربوية.
٭ كاتب تونسي
ماجد البرهومي