هاجس روائي

ربّما هكذا نستطيعُ أن نفتتح روايةً، حديثٌ مجانيٌّ عنِ الحياةِ اليومية، طقوس الليلِ وإشاراتهِ، علاماتٌ تشي بالمكان وقدرته على استيعابِ التخيل، تأويلاتٌ ودلالاتٌ تربطُ اللحظةَ الميتةَ باللحظةِ المعاشةِ، أو قدرة سحرِية تربطُ بينَ خرافةٍ في الهاويةِ وحدثٍ يتربّع في صدرِ الواقع. لكأنَّ الحياةَ يعادُ إنتاجها بإغواءاتِ السردِ، حيثُ السارد ملكُ مساحتهِ، إقطاعي ولهُ الحق في كذبةٍ كبيرةٍ سيسميها: فنُّ الكتابة، أي قفزُ الوقائعِ جهةَ المتخيل، أو تقريب المتخيّل من الواقع.
ربما هكذا: الليلةُ مقمرةٌ وأصواتنا وأصواتُ كلابنا تملأ الفضاء ونحنُ نتدافعُ مثلَ الكرةِ في جهاتِ القرىَ، القمرُ شمسُ ليلٍ ولا خوف يتملكنا من وحشّ ليليّ، يصوّرهُ الأهلُ بأنياب حادة ومخالبَ طويلة، لهُ عدةُ رؤوس ويبتلعُ الإنسانَ والحيوان والأقمارَ، لم يكنْ تنيناً ولا حوتاً، لكنهم يسمونَه الحوت، وإذ لا بحرَ لديهم فقد سندوا حوتَهم المتخيل هذا بقصص الجنيّات والسعالي ومسرحُها البريّات الواسعاتُ، القصص التي صارت من تكرارها واقعاً بعدَ أنْ كانَت خرافةً، تنتجها آلةُ الجهل وشظفِ العيشِ، وكنا باللامبالاةِ والشغب نُعيدُ المشهدَ بأجسادنا وعقولنا الصغيرتين، محاولاتٌ أولىَ لقهر الخوفِ لصالحِ اللعب، محاولات أولى لدحضِ العتمةِ لصالحِ ضوء خافتٍ تتبدى فيه الحياة. شيءٌ ما كانَ يُحسسنا أنَّ السماء قريبة وأنّ الأرضَ بحدودها، المربعة، كما نراها آنذاك، صغيرةٌ، والأفقُ قريبٌ، قربَ حدودِ دولةٍ مجاورةٍ، مبتلاةٍ بالحروب، لكنّها بوابةٌ واسعةٌ للخيالِ والتهريب، ومدعاةٍ لسلطةٍ كانت تجد تلفزيون تلكَ الدولةِ في بيوتنا جريمة وإعلان محبةٍ لرئيسها الذي يرونهُ مصدر خطرٍ على الدولة «الوطنية»، وكمْ من أحدٍ راحَ في ليلةٍ ليسَ فيها ضوء قمر كالذي كنا ننعمُ بهِ في أماسي القرىَ الفقيرة، الفقيرة حتى بألعابِها. أحدهم قالَ لي مرةً:» اعتقلت في تدمر اثنا عشر عاما، خرجت باللباس المهترئ الذي دخلت بهِ، وشحاطة هي نصف شحاطة، ومبلغ مالي، لم يكن كافيا ليوصلني من تدمر إلى القامشلي، عندما عرضته على معاونِ الباص ضحك، وسألني إذا ما كنت من أهل الكهفِ» ويضيفُ أنّهُ رأى ذلك عاديا ـ في دولة البعث ـ إلى أن ذهب بعد سنوات من خروجهِ إلى الأمن الجنائي، ليستصدر ورقة تفيد بـ(لا حكم عليه)، وجدَ أنّهم كتبوا في سجله محكوم خمس سنوات بتهمة كتمان معلومات، هو يتساءل عن السبعِ السنواتِ الأخرىَ، سبعِ سنوات كعجافِ السوريين.
ننظرُ من نوافذَ بيوتنا، لم تكن نوافذ بل كوَّات أو شقوق في الجدران، إذ أننا أميَّلُ بطباعنا إلى بيوتِ الشعرِ المشرعةِ على الريح والمطر والعشقِ والشعرِ والقصص والأحاجي، ولذلكَ عندما استوطنا الطين، وتأسست علاقتنا بهِ، لم يكن من أسوارَ تفصلُ بيوتاتنا عن بعضها، شعورنا بالجغرافيا كانَ بدوياً، لا جشعَ علىَ تملكِ أراضٍ واسعةٍ، ولو نشبت حربٌ جديدة ستكونُ على الماء والكلأ والمراعي، وليسَ على أرضٍ يبدو واضحاً أنّها تسعُ الجميعَ بأحلامهم وألعابِ أبنائهم، الأبناء الذينَ حولوا الطينَ إلى أشكال تشبههم وحيواناتهم، وصاروا يكلمونها بوصفها حيوات أخرىَ، تعاضدُ أرواحهم لتأثيث المكانِ بما يلزمُ من الحكايات والأحداثِ الطفلةِ.
أمي كانتِ في الليل تغلقُ الكوةَ، وتخبرني أنَّ الذئب سيأتي، سيبحثُ عن طفل جميلٍ يأكلهُ، كنتُ أسمعُ أنَّ الذئاب تأكلُ الخرفان وليسَ الأطفال، لكني أصدّق أمي في كل ما تقول، فأدفنُ رأسي تحتَ اللحاف منتظراً شمس (غد) حيث سيبتعدُ الذئبُ عن بيتنا وأخرج إلى بريةِ الله الواسعة، تسيرُ بي المرأةُ التي تنتظرُ زوجها السجين في الدولةِ المجاورة في جادةٍ ضيقة بينَ الزروع إلى أنْ نصلَ هضبةً، تضعُ رأسي في حضنها وتفليه من الصئبان، كثيراً كانت تنزل دمعتها على وجهي حارةً وهي تحدثني عن أبي الذي سيأتي معافى، وعني حينَ أكبرُ وأصبحُ أحداً ذا شأن، هي لم تقطع رجاءها بمجيئه، وترى كلَّ القصص التي يتم تداولها عن موتهِ تحت التعذيب في قصر النهاية. وأبي غريب محضُ كذبٍ وتهويمات أناسٍ يتمنونَ لهُ الموت، والحقيقة الوحيدة التي تؤمن بها وصدّرتها إليّ ورددتُها: «أبي حيٌّ». في كلِّ رواية لابدَّ من سجنٍ، قد يكونُ سجنَ النفس، قد يكونُ العجزُ، وقد يكونُ السجنُ ببنائهِ الأسمنت وأسوارهِ العاليةِ وسجانيهِ الذينَ بلا رحمةٍ، سجانيه الأقرب إلى الآلةِ منهم إلى البشر، وفي كلّ مفصلٍ لابدَّ من أمّ تنذر الكثيرَ لنكبرْ، لقد كبرت يا أمي، وقبلَ أيامٍ طلبت من صديقةٍ قريبةٍ من مقبرتكِ أنْ تصوّر لي المقبرة، وفعلتْ، لو تسنىَّ لي أنْ أعودَ ثانيةً، سأقيمُ قربك طويلاً وسأمشي في كلَّ الجاداتِ التي مشينا فيها معا، وسأطلبُ من أنثى ما أن تفلي رأسي من الصئبان، وتعيد لي قصصكِ عن أبي وعني والسعالي والجنيات والسجون والذئاب التي تأتي لتأكلَ الأطفال الجميلين، هل حقّا كنت جميلاً يا أمي؟، أنا اليوم في هذه الحرب أبدو بوجهِ ذئبٍ كهلٍ، وأطفالي يخافونَ من الذئاب.
كنا كثيرين ولكلّ منا كوتُهُ وأمّهُ وأبوهُ، إلّا أنا كنتُ بلا أبّ، لكن بقصص كثيرةٍ، وصرنا في ما بعد بنوافذَ وأحزان، نتذكرُ الليالي المقمرات والسماء القريبةِ من الأرض، والأرض المربعةِ والأفق القريب الذي نراهُ آخر الكون، والشمس التي تنزل في حفرةٍ وتنام فيها. في الروايةِ أيضاً لا بدَّ أنْ تعيشَ لتروي كيفَ تفرّق الأهلُ والأصدقاء ورفاقُ اللعبةِ التي كانت صغيرة وصارت كبيرة ومميتة.
الروايةُ سهلةً لكنّها موجعة، لم نعد نسمعُ الحكايةَ ونتلذذ بها، لأننا صرنا حكايتها، إعادة إنتاجها بشخوصنا التي من لحمنا ودمنا وهواجسنا، تحولنا من متلقينَ للحدث كموعظة أو طارئ أو أمر يخصُّ زمناً غير زمننا وأناس غيرنا إلىَ أبناءٍ للحدثِ وبؤرتهِ الحارة والمتوترة.

شاعر وناقد سوري يقيم في ألمانيا

هاجس روائي

محمد المطرود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية