هبائية اللانص

يتواصل الناس في ما بينهم عن طريق الكلام الذي يعتبر أبسط طرق التواصل وأسهلها للتعبير عن الذات. ولكن ليس بمقدورهم كلهم امتلاك اللغة. فهي مرتبة أكثر تعقيداً من الكلام على مستوى الصوغ والنحو والبلاغة. خصوصاً إذا تجاوزت البعد الاستعمالي إلى الفضاء الدلالي. أما الكتابة، التي تأتي في منزلة أعلى، فهي حرفة النخبة المتعلمة المبدعة. بالنظر إلى ما تتطلبه من معرفة وخبرة في إنتاج (النص).
أجل النص الذي بات يحتل مساحة كبيرة في التوجه اللساني الحديث، وصار من أكثر المفاهيم تداولاً واختلافاً عليه ثقافياً ونقدياً وأدبياً ولغوياً، حيث تطلق كلمة نص، حسب بول ريكور (على كل خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة). بمعنى أن الكتابة عنصر مؤسس للنص، حيث يسمح ذلك التثبيت بحفظه وتوثيقه ومراجعته وتقويمه ودراسته، مع مراعاة أن بعض الشفاهيات تمتلك مواصفات النص إذا احتفظت بشروطه. ولكن الملاحظ أن مفهوم النص صار عرضة للتداول الاعتباطي في الأدبيات اليومية، بحيث أصبح كل مقطع كلامي يُنشر تحت عنوان النص وتتم مجادلته على هذا الأساس. فالقصيدة حملت هوية النص الشعري، والرواية اتشحت برداء النص الروائي، وكذلك القصة تم تمريرها تحت مظلة النص القصصي وصولاً إلى النص المفتوح والنص اللامجنّس.
وكل تلك التجاوزات إنما تمت بذريعة التجريب والاتكاء على مقولات هدم الحدود ما بين الأجناس الأدبية وتخليط ألوانها.. وهي منطلقات إبداعية بدون شك، إلا أنها تأتي ضمن سياق قاصر في التعاطي مع مفهوم النص، وبالتالي يمكن لأي ذات تحاول الحضور من خلال الكتابة العبث باشتراطات النص من خلال التمسُّح بحوافه، وإنتاج ركام هائل من النصوص الخالية من المضامين والمعاني وحرقة التجربة ومن وهج اللغة كمكوّن بنيوي.
ذلك الاجتراء على النص بوابل من الجمل الرنانة والعبارات الصافية والمفردات منزوعة الظلال، لا ينتج إلا نصاً متصلباً متيبساً محتشداً بالألفاظ التهويمية، حيث تتكاثر الأناشيد التطريبية المتشبّهة بالشعر، وخطابات الحكي الوعظية المثقلة باللغة والحمولات الاجتماعية، والبورنوغرافية التي تتمسح بالرومانسية واللغو الملتبس باللغة. وهو أداء شكلي يخالف المنطلقات اللسانية، التي تقول بكون النص بنية ذات نسق داخلي على درجة من التماسك، تتداخل عناصره في شبكة من العلاقات المنطقية والدلالية والنحوية.
النص ينبغى له أن يؤكد على الانبناء كوحدة لغوية مهيكلة داخل سياق فيه من الاتساق والانسجام الفني ما يوازيهما من المقاصد والتناص، حيث يتميز، حسب عبدالفتاح كليطو (بالثقافة والغموض والغرابة والتدوين والكتابة والحفظ والاستشهاد ونسبته إلى كاتب مشهود له بالحجية والشهرة، فضلا عن وظيفته التعليمية والتربوية). وهي اشتراطات يفتقر إليها ما يسميه بـ (اللانص).
هذا التفريق بين النص واللانص تحتّمه شمولية النظرة للظاهرة النصية، التي تستثني المصفوفات الكلامية وتتجاوزها إلى الخطاب، باعتباره المضمون الواعي المختزن في النص كبنية شكلية، إذ لا يحصل النص بمجرد التدوين، واكتساب الشكل النصي، بل بوجود وحدة دلالية وبنية لغوية ووحدة معنى، أو كما اختصر رولان بارت مفهوم النص في قوله (بأنه كمية دينامية لا محدودة من الشفرات التي عن طريقها ينتج مقدار من اللغة منفتح على تعدد المعاني) وإن كان لا ينفي وجود النص في كل ما هو كلامي، إذ يمكن لأي فرد استخدام اللغة أيضاً بوعي أو بدون وعي لطريقة اشتغالها، بمعنى أن العمل النصي هو الذي يستثمر الإمكانيات اللغوية في حدها الأقصى.
على هذا الأساس يمكن النظر إلى المنتجات النصية واللانصية التي تنشر اليوم بكثافة، أي ضمن الحقل الأدبي الذي يشكل فضاء احتمالياً واسعاً للإنجاز النصي، حيث تتكاثر الكتابات التي تفتقر إلى الوقود الثقافي الذي يرفعها إلى مرتبة النص، كما يلاحظ أنها منظومات كلامية منغلقة على نفسها، ولا تنفتح على تعدُّد المعاني ولا تنتظم فيها الدوال، أي أنها لا تنتج الشفرات الثيمية والاحتمالية والتأويلية والرمزية والثقافية، وهو أمر يعود إلى سذاجة الذات الكاتبة، المستخفة بمقاصد ومباعث الكتابة، وعدم وعيها بمتطلبات الإنجاز النصي، إذ يتفسر من ذلك المنظور كثافة النصوص النيئة التي تتلبس لبوس النص، سواء النصوص السردية أو الشعرية.
وهكذا صرنا قبالة آلية ضخمة لإنتاج اللانص، التي لا تمارس اشتغالها النصي داخل اللغة. وبالتالي فهي تفرغ النص من أدبيته، على اعتبار اللغة هي مادة الأدب، وهو اختلال مرده عدم قدرة تلك الذوات على التركيب. وتمثُّل تقنيات النسق عند الكتابة، بحيث تطغى اللغة التوصيلية الإخبارية على الفائض اللغوي الذي يهب النص أدبيته، بمعنى أن الدال لا يعمل داخل هذه النصوص بما يكفي. وبالتالي يطغى حسّ التبسيط الذي يُفقد النص جاذبيته. الأمر الذي يعطل الوظيفة الأهم للأدب المتمثلة في القوة التخريبية للغة، وهذا ما تفترضه أيديولوجيا النص.
إن النفور أو الملل الذي ينتابنا عندما نقارب المنتجات النصية التي ترميها المطابع يومياً بلا هوادة، ناتج في المقام الأول من إحساسنا بأننا لا نطالع نصاً بالمعنى الأدبي، إنما هي زخات كلامية تُنتج تحت ذريعة تحطيم البلاغي، والاحتفاء باليومي والهامشي والعادي. وهذه أيضاً منازع حداثية الطابع ولها إسهامها في تحرير النص من ثقل التصويرات الزائدة عن الحد والموضوعات القيمية الكبرى وجور اللغة المتعالية، إلا أنها هنا، أي ضمن ذلك السياق اللانصي، تحاول الانفلات من المعيارية والاشتراطات والتجنيس باتجاه الهبائية.
بمقدور النص أن يعيد الحياة للكلمات والموضوعات المستعملة المستهلكة، على قاعدة إعادة التركيب والترتيب أو حتى بموجب نزعة التخريب.. وهذا هو جوهر النص، إلا أن النص ذاته لا يحدث إلا داخل فضاء، فضاء يرفض استنساخ نص أسبق بدعوى التأثر ويعاند بقوة الاستخدام الوعظي للغة الاجتماعية، أو الانطلاق في تيه تعبيري أشبه ما يكون بالهذيانات التي لا تستند إلى الترميز ولا تقبل التأويل، لأن الأدب في منطلقاته الجوهرية يعتمد على فكرة تفتيت اللغة وتدمير صرامتها، ولكن ليس خيانة مفهوم النص.

كاتب سعودي

محمد العباس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية