يعكس الرد المصري على الهجمات الأخيرة التي استهدفت حافلة للأقباط يوم الجمعة 26 أيار (مايو) كانوا في طريقهم لزيارة مقام ديني في محافظة المنيا جنوب مصر، حالة من اليأس والإحباط التي أصابت نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي يواجه معضلة في التعامل مع مشكلة من صنعه ولم يكن قادرا على احتوائها في شمال سيناء التي تعاني من تمرد منذ سنين عدة. ويبدو أن سياسة الأرض المحروقة والقمع الذي مارسه في سيناء لم يكن كافيا لمنع وصول المسلحين إلى مدن مصر الرئيسية ويصبح عنوان المواجهة بين النظام والمتشددين من تنظيم «الدولة» الهجمات المتكررة على الأقباط. وهو أسلوب واضح لدى الجهاديين الذين يحاولون اللعب على وتر التناقضات الطائفية والعرقية في بلدان فاشلة، أو شبه فاشلة أو تعاني من قمع مقيت مثل مصر. وهي علاوة على كونها استهدافا للمسيحيين الأقباط تبغي إحراج الرئيس الذي يعد بعد كل هجوم بحمايتهم والمصريين عامة الذين باع بعضهم حريته مقابل الحصول على الأمن أو هكذا بدا من صيغة الانقلاب الذي قاده ضد الرئيس المنتخب ديمقراطيا محمد مرسي في تموز (يوليو)2013. والمشكلة التي تعاني منها مصر في حربها ضد المتشددين في سيناء أنها نفرت سكان سيناء من الجيش المصري الذي عاملهم كمتعاونين مع الجهاديين، فيما نظر هؤلاء لهم كعملاء، وهي المشكلة الكلاسيكية التي واجهها العرب السنة في العراق حيث باتوا بين سندانة الحكومة الشيعية الحاكمة في بغداد ومطرقة الجهاديين الذين خرجوا باسم حماية السنة.
لا استراتيجية تمرد
وعلى خلاف الوضع في العراق أو سوريا والجارة ليبيا فقد ظل الجيش المصري الرافض تطوير استراتيجية لمكافحة التمرد يواجه الجهاديين في منطقة محددة نجح في إبعادها عن مرأى ومسمع العالم وجرم الإعلام المحلي والعالمي الذي نشر معلومات غير صادرة عنه. وانتقلت الحرب الآن إلى بر مصر وبحرها وصعيدها، حيث بات الجهاديون يتحركون بحرية أمام فشل المؤسسة الأمنية ووجد السيسي في ليبيا التي تعمها الفوضى منذ انهيار نظام القذافي الشماعة التي يعلق عليها الأزمة الأمنية الحالية. ومما يثير إحراج المؤسسة المصرية الحاكمة أن التمرد في سيناء ظل يدور حول مواجهة بين الجهاديين والجيش أما الهجمات الأخيرة فباتت تطال المنشآت العامة والمدنيين وأماكن العبادة والأقباط بشكل أدى إلى جذب انتباه الخارج على ما يحدث في مصر وعرقل جهودها اليائسة لإنعاش قطاعها السياحي المتضرر أصلا من الثورة المصرية عام 2011 والذي بات شبه منهار بعد تفجير الجهاديين طائرة ركاب روسية فوق سيناء في 2015 بشكل أدى بعدد من الدول الغربية وروسيا لمنع طيرانها من السفر إلى شرم الشيخ الذي انطلقت منه الطائرة المنكوبة.
وبعيدا عن عمليات القمع التي يمارسها النظام ضد معارضيه الإسلاميين وغير الإسلاميين وملاحقته تجمعات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية فإن رده على كل هجوم هو التعبير عن التحدي ومراكمة الترسانة العسكرية بشراء مقاتلات فرنسية وغواصات ألمانية وطائرات أمريكية تضاف إلى الترسانة العسكرية التي تعود إلى عصر الاتحاد السوفييتي وهذه ليست كافية على المدى القصير لحماية 93 مليون مصري ومنع الهجمات على الأقباط. وفي حال استمر استهدافهم فسيواجه النظام سيناريو قاتما من ناحية دفع العديد منهم للهجرة إلى الغرب بشكل يؤثر على صورة مصر كبلد متنوع ويثير إحباط الأقباط الذين يشكلون نسبة 10٪ من السكان ويعتبرون أكبر أقلية مسيحية في الشرق الأوسط.
البعد الليبي
وفي الوقت الحالي يرى السيسي أن المهاجمين جاءوا من ليبيا وزعم الجيش أنه أوقف خلال العامين الماضيين أكثر 1.000 سيارة دفع رباعية وهي الوسيلة التي يستخدمها الجهاديون في هجماتهم. وتدور الكثير من الشكوك حول ماهية الأهداف التي يضربها الطيران المصري وإن كانت فعلا تابعة لتنظيم «الدولة» الذي تراجعت قوته بعد خروجه من سرت نهاية العام الماضي. ويعتقد محللون أن لا علاقة بين الغارات وهجوم المنيا، وأن الضربات مرتبة سابقا كما نقلت وكالة أنباء «رويترز» (1/6/2017) عن خبراء قالوا إن درنة التي ضربت ويوجد فيها مجلس شورى المجاهدين لا تاريخ له في توجيه هجمات خارج ليبيا. ويرى البعض أنها من أجل دعم الجنرال خليفة حفتر الذي تحاول قواته السيطرة على درنة منذ فترة طويلة. ويقول مختار عواد من جامعة جورج واشنطن إن هجوم المنيا كان محفزا للكثير داخل الحكومة المصرية من داعمي تدخل مصري في ليبيا: «إن تحرك مصر لا علاقة له بهجوم المنيا، ولكن من أجل طرد ما يمكن طرده من متشددين في شرق ليبيا». وفي هذا السياق تطالب الحكومة المصرية برفع حظر تصدير السلاح المفروض منذ الثورة الليبية عام 2011 من أجل منح حليفها حفتر الفرصة لفرض سيطرته على البلاد، وهو نفسه يحمل أجندة مكافحة الإرهاب التي تقول القاهرة إنها تواجهه. ولم يستبعد قادة الجيش ضربات ضد قواعد للجهاديين في شمال السودان في ظل توتر بين الخرطوم والقاهرة وتبادل اتهامات بدعم النظام المصري المتمردين في دارفور وبسبب النزاع الحدودي على شلاتين وحلايب. ويقول الجيش انه يراقب المثلث الصحراوي بين مصر والسودان وليبيا.
حرف انتباه
ويرى محللون أن الهجمات على ليبيا تعتبر حرفا للانتباه عن الفشل الأمني، وكما قالت ميشيل دان من كارنيغي في تصريحات لوكالة أنباء «رويترز»: «من السهل ضرب مواقع إرهابية في ليبيا من الجو بدلا من تنظيف مشاكل مصر الداخلية مثل الطائفية والتشدد التي تقود إلى هذا الهجوم وغيره» وأضافت إن «كل الإرهاب المرعب الذي يحدث داخل مصر له دوافعه المحلية الخالصة وربما حدث لو لم يكن تنظيم «الدولة» موجودا، وهو إرهاب ليس مختلفا عن الذي عانت منه مصر في التسعينات من القرن الماضي قبل نشوء تنظيم «الدولة» والقاعدة». وناقش أتش إي هيليير، الزميل غير المقيم في المجلس الأطلنطي في مقال نشرته مجلة «ذا أتلانتك» (26/5/2017) أن هناك مناخا ملائما للطائفية والتحشيد ضد الأقباط في مصر. وهو إن تردد في مقاربة ما يفعله تنظيم «الدولة» مع الأقباط وما يصدر من خطاب محرض ضدهم إلا أنه يرى ضرورة عدم التقليل من الدور الذي يلعبه الخطاب المعادي لهم من بعض الدوائر المتشددة التي ترى فيهم أقلية مرضي عنها وتحظى بمزايا وتعتقد أنها خاصة البابا تواضروس الثاني، متواطئة مع الإنقلاب. وهو لا يستبعد الهدف السياسي وراء الهجوم الذي يريد دفع الأقباط للهجرة والذين يهاجرون للدول الغربية في السنوات الماضية بأعداد مهمة. ويعتقد هيليير أن الخطاب عن الأقباط في الصحافة الناطقة بالعربية سلبي في الأعم الأغلب. فالطائفية موجودة قبل تنظيم «الدولة». وكما لاحظ تايلور لاك في «كريستيان ساينس مونيتور»(13/4/2017) فالجماعة الإسلامية في التسعينات من القرن الماضي شنت هجمات ضد الأقباط. وذهب المذهب نفسه إريك تريغر في مقال له في مجلة «فورين بوليسي» (29/5/2017) ولكنه ركز على ما صدر من تصريحات لبعض قادة الإخوان والمتحدثين منهم حول الأقباط ودورهم في دعم الإنقلاب على حكومتهم ورأى فيها نوعا من التحريض.
ماذا سيفعل؟
لكل هذا تظل خيارات النظام محدودة، فعلى المدى القريب قد تتخذ الحكومة إجراءات لحماية الأقباط المزدحمة برامجهم بالزيارات ومواسم الحج. فقد تلغي هذه المناسبات وقد تقوم بالتنسيق مع الكنيسة القبطية بالاضافة لتشديد الأمن على الكنائس والمعابد المسيحية. وفي ظل نظام الطوارئ المفروض سيواصل السيسي حملة اعتقالاته ضد المعارضين لنظامه خاصة أنه يواجه مرحلة صعبة تتعلق بالانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها العام المقبل ومن المتوقع ترشحه فيها رغم فشله الواضح في إنعاش الاقتصاد والسيطرة على الوضع الأمني. وفي كل مرة يقوم بها الجهاديون بهجمات ضد الأقباط أو المدنيين تتخذ الحكومة إجراءات تضيق من مساحة حريات التعبير. وفي الأسبوع الماضي قامت بمنع عدد من المرسلات الإعلامية بما فيها «الجزيرة» و«مدى مصر» وغيرهما متهمة إياهما بالتعاطف مع الإسلاميين. وتزامنت الحملة ضد هذه المؤسسات الإعلامية مع التوتر الأخير بين دولة قطر من جهة والسعودية والإمارات العربية المتحدة. وحسب صحيفة «فايننشال تايمز» (2/6/2016) فقد اتهمت منظمات حقوق إنسان في مصر السيسي بتكثيف الحملة التي يشنها لملاحقة وقمع معارضيه، استعدادا للانتخابات الرئاسية العام المقبل. وبدون حل للمعضلة الأمنية فسيواجه السيسي هجمات جديدة. والمشكلة في المدخل الذي تبناه هو أنه لا يرى فارقا بين إرهاب تنظيم «الدولة» والقاعدة وبين النشاطات التي تمارسها الحركات الإسلامية المعتدلة مثل جماعة الإخوان المسلمين التي نالت القسط الأكبر من قمعه وسجن العشرات من عناصرها في مرحلة ما بعد الانقلاب. وفي ظل إعادة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية والاحتفاء الذي حاز عليه السيسي من الرئيس دونالد ترامب الذي وصفه بالرجل الرائع وتغنى بحذائه أثناء القمة العربية-الأمريكية في الرياض حصل الرئيس المصري على ضوء أخضر لمواصلة القمع. ومن هنا لاحظت صحيفة «واشنطن بوست» (31/5/2017) أن النتائج السلبية لزيارة الرئيس ترامب الأولى إلى الخارج تستمر في التراكم. فبعد أن طمأن ترامب السيسي في قمة الرياض عاد رجل مصر القوي إلى القاهرة الأسبوع الماضي وضاعف القمع، فأغلق أكثر من 20 موقعا إخباريا واعتقل العشرات من الناشطين السياسيين العلمانيين الليبراليين بمن فيهم خالد علي، محامي حقوق إنسان قال إنه ربما ينافس السيسي في الانتخابات الرئاسية لعام 2018. وصادق على قانون جديد يفرض قيودا غير مسبوقة على جمعيات المجتمع المدني. وهذه القوانين تحرم على المصريين إنشاء جمعيات مستقلة دون إذن مسبق من الحكومة وتعطي المخابرات والأمن السلطة للسيطرة على كل التمويل الأجنبي لها. وقالت الصحيفة إن القرارات الأخيرة جاءت بعد الهجوم الإرهابي على الحجاج الأقباط مع أن الناشطين والإعلام وجمعيات المجتمع المدني التي استهدفها لا علاقة لها بتنظيم «الدولة» الذي ازداد فرعه المصري قوة بشكل مطرد منذ أن جاء السيسي إلى السلطة. وحذرت من تأثير قمع النظام والمساعدات التي يتلقاها من الولايات المتحدة (1.3 مليار دولار سنويا) على المصالح الأمريكية في المنطقة. ومهما يكن فتظل السياسات القمعية للنظام المصري هي صناعة محلية وليست بسبب تشجيع ترامب كما يرى نوح فيلدمان، استاذ القانون بجامعة هارفارد حيث قال في موقع «بلومبيرغ» (31/5/2017) «في الحقيقة وبعد ستة أعوام من الربيع العربي وأربعة أعوام من سيطرة السيسي على الحكم علينا التوقف عن لوم الولايات المتحدة لفشل الديمقراطية في مصر». وقال إن سبب قمع السيسي نابع من عدم وجود طرف في البلاد للوقوف كموازن له. وهذا نابع من القرار الكارثي الذي اتخذه جزء من المصريين للتخلي عن القادة المنتخبين ديمقراطيا، وتبني الجيش. وأضاف ان تحميل ترامب مسؤولية القرار الأخير بشأن المنظمات غير الحكومية نابع من المشاعر المعادية له أولا ومن نزعة تحميل الولايات المتحدة مسؤولية كل ما يجري في مصر. ويرى أن مظاهر الدعم التي أبداها ترامب لنظام السيسي نابعة من تبنيه السياسة الواقعية لا المثالية الليبرالية، مشيرا إلى أن باراك أوباما مع رحيله من البيت الأبيض كان قد تبنى موقفا مؤيدا للنظام المصري إن لم يكن ظاهرا. ويناقش أن ما جرى قبل وبعد الربيع العربي من أحداث لم يكن لأمريكا يد فيها، بل الشعب المصري هو من قرر مصير الديمقراطية. فقد كانت إدارة أوباما مستعدة للتعامل مع حكومة مرسي بالقدر نفسه الذي أبدته للتعامل مع النظام العسكري للسيسي.
إبراهيم درويش