هذه قهوتي…

حجم الخط
16

الشعوب كلها تشرب القهوة، لكنها عند العرب تُشرب وتمثل قيما اجتماعية لها رمزيتها في كثير من المواقف.
فمهما قدمت للضيف من حلوى أو شراب، يبقى واجبه ناقصا من دون القهوة، أما إذا قدمت له القهوة فقد أخذ واجبه، وبإمكانك أن تكتفي بذلك.
الواجب التقليدي في زيارة المريض والمباركة بالمولود والخطبة معظمه بُنٌ أخضر، والكمية تزيد أو يضاف إليها حسب العلاقة، في الأعراس لدى البدو مثلا، تقدم القهوة النيئة بأكياس من عشرين كيلو وأكثر.
هناك من يستكثر على العرب علاقتهم الخاصة بالقهوة، يبدو أنه لا يطيق ارتباط اسم هذا المشروب الرائع بالعرب، ولهذا تجد في قائمة المشروبات في المقاهي الإسرائيلية، قهوة تركية، واسبرسو طويل أو قصير أو كابوتشينو وغيرها، ولن ترى قهوة عربية، أما القهوة الشبيهة بطريقة إعدادنا لها، فيسمونها قهوة وحل، والوحل المقصود هو خميرة القهوة عندنا.
أصل القهوة لغة هي الخمرة، ولكن المعنى الدلالي التصق بالبُنّ لأنه يفعل فعل الخمرة إذ أنه يقهي شاربه، والإقهاء هو عدم الرغبة بالطعام من غير مرض.
غنى لها العرب، مثل بللا تصبوا هالقهوة لسميرة توفيق، وآهوه لأسمهان، ودارت القهوة لمرسيل خليفة، وقال محمود درويش:»القهوة لا تُشرب على عجل، القهوة أخت الوقت تُحتسى على مهل».
ومن حبنا لها، فقد حاول بعضهم رؤية حظه ومستقبله من خلال سؤرتها في قعر الفنجان، فغنى عبد الحليم حافظ قارئة الفنجان من شعر نزار قباني.
وللقهوة عند عرب البادية تقاليد عريقة، الفنجان الأول (هيف) الذي يشربه المضيف أمام ضيوفه كي يأمنوا بأنه غير مسموم، والثاني للضيف، والثالث للكيف، أما الرابع فللسيف، فإذا شربه الضيف صار في حلف مع المضيف على السراء والضراء وهو عبارة عن توقيع تحالف بين طرفين، يصعب جدا نكثه.
أما من يأتي إليك في حاجة فلا يشرب قهوتك حتى تلبي له غايته، وقد رأيت هذا بعيني أكثر من مرة، وخصوصا لمن يسعون للصلح بين الناس، قد يرفضون شرب قهوة المضيف حتى يحصلوا على موافقة أو تلبية مطلب ما.
قد تحتار في توزيع القهوة إذا كان الديوان عامرا من أين تبدأ، القانون الصريح كما تعلمناه: ابدأ بالقهوة على يمينك ولو كان أبو زيد على يسارك. وهذه قاعدة أعمل بها ليس فقط في القهوة، بل بكل ما يُقدم.
لدى كثيرات من نساء العرب خصوصا من الجيل المتقدم سنا ولع بفناجين القهوة، خصوصا أنها صارت رخيصة الثمن لكثرتها وسهولة استيرادها من الصين، فإذا دخلت امرأة مركزا تجاريا أو دكانا لبيع الزجاج والخزف، فإنها تلف وتدور ثم تتوقف عند أطقم القهوة، ترفع هذا الفنجان وذاك وتتأمل زخرفته وحجمه وثخانة شفته وتسأل عن ثمنه حتى لو كان في بيتها عشر دزينات. في كل بيت عربي ميسور عدد من غلايات القهوة بأحجام مختلفة وعشرات الفناجين. بعضهم يحتفظ بفناجين قديمة ورثها عن والديه أو أجداده، عندي فنجانان من والدتي رحمها الله، كانت قد ورثتهما عن والديها وحافظت عليهما كأنهما درّتان.
في عصر السرعة صار في معظم المكاتب وكثير من البيوت أجهزة لإعداد القهوة بكبسولات اسبرسو، صحيح هي من عائلتها ولكنها ليست قهوة بالضبط.
المنافسة قوية على سوق مستهلكي القهوة العربية، فلا يمر عام إلا ويظهر مسوّق جديد لهذا السحر الذي اسمه قهوة، وهو مجال دخل فيه بعض رؤوس الأموال العرب بقوة في تنافس بينهم، شركات الأغذية الإسرائيلية الكبيرة تحاول السيطرة على كل مشروع اقتصادي جديد، وتفاوض لشراء أبرز الأسماء المشهورة في سوق القهوة العربية بالذات، فهي سوق تزداد وتتسع عاما بعد عام.
يقولون إن للقهوة مزايا علاجية ولا أعرف صحتها طبيا. كانوا يضعونها على الجرح لوقف النزف، ولي بهذا ثلاث تجارب شخصية، قفزت مرة رأسيا في حوض ماء عين القرية، لم أقدّر العمق جيدا، فارتطم أعلى جبيني الأيمن بأرضية الباطون فشُجّ رأسي، أسعفتني والدتي بالقهوة المطحونة على الجرح وضغطت حتى توقف النزف، في الثانية رفع أحد الأولاد رتاج بوابة معصرة الزيتون الثقيل فوق قامته ثم أطلقه بغير قصد ليهوي بقوة في أعلى جبيني من الناحية اليسرى هذه المرة، فخرجت امرأة من البيت المقابل للمعصرة، وبكفها بنٌ وضعته على الجرح وضغطت بكفها حتى انقطع النزف.
أما الثالثة، فقد مثّلت في لعبة طفولية دور عبد الله البحري يطارده عبد الله البري من قصص ألف ليلة وليلة، خلال عَدوي التفتُ خلفي فهبطت قدمي في وهدة فاختل توازني فسقطت على صفحة وجهي اليمنى سابحا على فنجان شاي مكسور، يومها أُهدر بنٌ كثير على الجرح بلا نتيجة، فقد كان عميقا وطويلا، نقلت إلى العيادة فلفّت الممرضة رأسي بالشاش الأبيض، ونقلت إلى المستشفى وعدت منها بتسع قُطبات، كانت تبدو كصفٍ من الدبابيس المعلقة في وجهي لعدة أسابيع، وبرغم ذلك كانت هذه مناسبة سعيدة، إذ حصلت خلالها على هدايا كثيرة وعلى نقود كأن الدنيا عيد وأكثر، واستمعت خلالها لقصص منها الخرافي ومنها الواقعي، أذكر منها أن رجلا بسيطا شعر بملل فزار بيت أحد شيوخ القرية، جلس في ديوانه ما يقارب الساعة ولم يتحرك المضيف بتقديم فنجان القهوة، وإذ ذاك دخل مختار البلد، لم تمض دقائق حتى أعدوا وقدموا القهوة للمختار ثم التفتوا ليقدموها للرجل البسيط فرفضها وقد شعر أنه أهين وقال: هذه ليست قهوتي، ثم خرج مستاء إلى بيته، وبعد ساعة عاد، ووقف قبالة ذلك الشيخ وهو يحمل مصب قهوة بيمينه وفنجانا بشماله، وراح يصب فنجانا تلو الآخر ويسكبه على التراب وهو يعد.. تفضل هذا فنجان وكمان فنجان وكمان فنجان، وكل من يمر يتوقف وينظر بدهشة مما يفعل وبعضهم يحاول منعه ووقفه ولكنه استمر حتى أفرغ المصب تماما مستردا كرامته…

هذه قهوتي…

سهيل كيوان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رؤوف بدران-فلسطين:

    أنا المحبوبة السمــرا
    وأجلى بالفنـــــــــاجين
    وعود الهند لي عطر
    وذكري شاع في الصين
    اسعدت صباحًا اخي سهيل , مقالك هذا فيه من النكهة الطيبة ما ينعش الذاكرة ويرُجعنا الى الزمن الاصيل والجميل!! بما اننا من نفس الوطن الجريح اقول ان القهوة التي تطبخ ويتم اعدادها بأكمل طريقة واطيب نكهة , هي القهوة الكرملية وخصوصًا قرية عسفيا ,اراهن انه لا يوجد في كل العالم من يستطيع تحضير القهوة( المُرّة ) مثل اهل عسفيا , انت مدعوا اخي سهيل لتثبيت صدق ما اقول.
    ان لفظة القهوة عربية الأصل، ومعنى القهوة في اللغة القديمة الخمرة، وفي ذلك يقول أبو نواس:
    يا خاطبَ القهوةِ الصهباءِ يمهرها
    بالِّرطل يأخذ منها مِـلْـئَـه ذهبا
    ……يا قهوةً حرِّمتْ إلا على رجلٍ
    أثرى، فأتلف فيها المالَ والنَّـشَـبا
    والمهباج او(المهباش) في اللغة العربية هو العزام وعند سماع صوته اثناء هرس البن هو بمثابة عزومة لدواوين الاجاويد ,
    لا اريد ان اتطرق للناحية العلاجية في القهوة, ولكن اريد ان اسرد حدثًا حصل معي ايام شبابي ,
    كنا ثلة من الاصدقاء والصديقات والمعارف نتسامر ونحتسي القهوة , ناولتني احداهن فنجان قهوتها لاعلمها من خلاله طالعها ومخبآت الغيب عندها؟! فنظرت اليها وارتجلت شعرًا قلت فيه:
    .يا حلوتي …
    عندما تَرشِفي فِنجانَ قَهوَتِك
    فَحاوِلي أن لا تَكْفِئيه
    لِتَستَوضِحي مَسالكْ المَجهول
    مِن خِلال التَّعاريج
    الَّتي فيه…!!!
    يا حلوتي …
    لا تَستَعجِلي قَدَرِك
    فَحَياتُنا مَرسومةٌ
    وعُمرُنا رَتابةً …
    وكل انحناءةٍ في مَساراتِه
    تُفنيه
    **********
    استمتعت جدًا بما قرأت وتمتعت بالتعقيبات وبردود القراء الراقية…لهم جميعًا مني التحية والاعجاب…والسلام.

  2. يقول ناديه:

    مقاله تمتاز بسلاسة اللغة ووضوحها وبأسلوب الجاذبية والتشويق وترتكز على عنصر السرد والوصف والحوار وعلى تصوير مواقف اجتماعية وإنسانية من الزمن الجميل ، القهوة أيقونة الصباح وعلاقتي بها علاقة عشق وادمان اشعر بأني اتصالح معها مع الزمان والمكان ومن يعشقها يتقن صنعها ويبدع فيه لأنه يحتاج إلى ذرات من الحب والحنان ففيها تختلط المشاعر والأحاسيس على أشكالها. تغنى بها الشعراء والمطربون فها هو بلال فوراني يقول: في الصباح لا احب ان اضع السكر في قهوتي يكفي ان اتلو اسمك ثلاث مرات على فنجان قهوتي فيحلو هو .. واذوب انا  ..؟؟ القهوة كما أشرت كاتبنا هي رمز لتراثنا وعاداتنا وتقاليدنا ولجذورنا المتأصلة في هذا الوطن وباعماق هذه الأرض،  ابدعت كما عهدناك وتألقت في هذه المقالة عميقه المعاني .

  3. يقول السعيد بن أحمد / الجزائر:

    “أعرف قهوتي وقهوة أمي وقهوة أصدقائي أعرفها من بعيد وأعرف الفوارق بينها .. لا قهوة تشبه قهوة أخرى ليس ‏هناك مذاق اسمه مذاق القهوة فالقهوة ليست مفهوما وليست مادة واحدة وليست مطلقا لكل شخص قهوته‏الخاصة الخاصة إلى حد أقيس معه درجة ذوق الشخص وأناقته النفسية بمذاق قهوته، ثمة قهوة لها مذاق الكزبرة ‏وذلك يعني أن مطبخ السيدة ليس مرتبا ، وثمة قهوة لها مذاق الخروب ذلك يعني أن صاحب البيت بخيل وثمة قهوة ‏لها رائحة العطر ذلك يعني أن السيدة شديدة الاهتمام بمظاهر الأشياء وثمة قهوة لها ملمس الطحلب في الفم ذلك ‏يعني أن صاحبها يساري طفولي وثمة قهوة لها مذاق القدم من فرط ما تألب البن في الماء الساخن ذلك يعني أن ‏صاحبها يميني متطرف وثمة قهوة لها مذاق الهال الطاغي ذلك يعني أن السيدة محدثة النعمة.‏
    لا قهوة تشبه قهوة أخرى لكل بيت قهوته ولكل يد قهوتها لأنه لا نفس تشبه نفسا أخرى ، وأنا أعرف القهوة من ‏بعيد تسير في خط مستقيم في البداية ثم تتعرج وتتلوى وتتأود وتتلوى وتتأوه وتلتف على سفوح ومنحدرات ‏تتشبث بسنديانة أو بلوطة وتتغلب لتهبط الوادي وتلتفت إلى ما وراء وتتفتت حنينا إلى صعود الجبل وتصعد حين ‏تتشتت في خيوط الناي الراحل إلى بيتها الأول.‏”
    محمود درويش, ذاكرة للنسيان

  4. يقول حسين/ لندن:

    هناك موضوع أتمنى على الأستاذ سهيل أن يكتب حوله أن أمكن وهو بدء موسم قطاف الزيتون، فهو له طقوس وذكريات فلسطينية أكثر من رائعة، واتوقع أن هناك ذكريات مع هذا الموسم في دول عربية شقيقة وقد يشاطرني البعض هذه الأمنية ،،،
    للزيتون معنى أكثر من مجرد شجر مقدس عند أهل فلسطين،،هو عنوان صبرهم وصمودهم وبطولاتهم،،،ورمز كفاحهم ،،وهو يشبههم كونه عصي على الاقتلاع من جذوره ألراسخة رسوخ الفلسطيني في أرضه…
    الله المستعان

  5. يقول سهيل كيوان:

    تحية لجميع المعقبين الافاضل أخي حسين من لندن اقد امتعتني بمداخلتك الجميلة واضفت للمقالة رونقا وما ذكرته صحيح بالنسبة للدراسات المتناقضة حول فوائد او مضار القهوة وكما تفضلت فالمهم الوسطية في كل شيء ؛ اعدك بمقالة عن زيتون فلسطين مع اني كتبت الكثير عن الموضوع ولكن ساجد زاوية جديدة اكتب فيها عن الزيتون ؛ الاخ رؤوف بدران اعدك بزيارة عسفيا وشرب قهوة معا مداخلتك رائعة ، هل تذكر مقالتي حول فحص العيون والتزييف الان يوجد بلورة لتقديم قانون في الكنيست يمنع فحص العيون الا في مكاتب الترخيص نفسه كي لا يتحول الامر الى تجاري وذلك لكثرة الشكاوى من استغلال السائقين من قبل تجار النظارات الطبية ، السعيد بن احمد من الجزائر الغالي شكرا على اقتباسك لدرويش الذي امتع القراء ؛ الاخت نادية مداخلتك جميلة مع اقتباسك للشاعر فوراني ، سامح من الاردن قدمت لنا صورة واقعية حية من حياة اخوتنا الاردنيين صباحا عموما معظم المدن العربية ؛ ختام قيس وسيف كرار وسماهر وسوري ووفاء زبيدات كلماتكم اسعدتني فقد احسست بدفئها ونكهتها العدنية وسمعت ضرب المهباج الاخ عابر سبيل مهما بلغ الطغاة وخربوا لا بد ان يطلع النهار على فنجان قهوة بمذاق النصر وانحسار الشبيحة من وطننا كله،: الاخ الكروي الف سلامة لعينك وشكرا على المعلومات والمساهمة والمتابعة الدائمة ومحبتي للجميع

  6. يقول حسين/ لندن:

    أشكرك جزيل الشكر أستاذ سهيل على كرمك وشهامتك با أبن بلدي الأصيل والطيب طيب فلسطين…
    إلى اللقاء وعلى المحبة نلتقي ..الخميس بإذن الله

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية