هذه ليست كليوبترا… وتلك ليست ثيودوراوحرب تحرير النساء من الموضوعات الجنسية

حجم الخط
5

 

في زمن تراجعت فيه حظوظ الكلمة المكتوبة لمصلحة الصورة، وبعد صعود جيلٍ كاملٍ يعتمد أساساً على الشاشات في تجرعه لمعلوماته عن العالم والتاريخ، تزداد خطورة التمثيلات المؤدلجة التي تُلصقها الأعمال الدراميّة بالشخصيّات التاريخيّة، والتي – كمتلقٍ للمنتجات الثقافيّة – إن لم تمتلك المعرفة المسبقة أو القدرة للبحث والتنقيب فستنتهي بتبنيها كتصورٍ (غير صحيح) عن العالم وأحداثه وشخصياته.

نساء التاريخ الشهيرات بلا حول ولا قوة أمام تُجار الصورة

في ذلك الفضاء، تبدو النساء الشهيرات من وزن كليوبترا آخر فراعنة مصر والملكة ثيودورا وهيلانة صور وبويدكا ملكة البريطانيين ضحايا لأكثر من مجرد التصويرات المنحازة أيديولوجياً، بل هن يُعاد إنتاجهن بالكامل كموضوعات جنسيّة أساساً، وتُبنى علاقتهنّ بالأحداث على أوصافهن الجسديّة أو شبقهن الجنسي أو سلوكهن المبتذل. لكن تلك التمثيلات تبدو بشكل متزايد إما غير دقيقة من الناحية التاريخيّة، أو على أفضل الأحوال تتسم بالمبالغة في عِنادها بتقديم الجانب الجنسي من شخصياتهن على حساب الجوانب الأخرى التي ربما كانت أهم بما خص مساهماتهن في السياق التاريخي لتاريخ أقوامهن.
هذا على الأقل ما تعتقده البريطانيّة بيتاني هيوز وهي مؤرخة شابة معروفة في أجواء الإعلام الغربي ومقدّمة برامج وثائقيّة وحواريّة على الشاشات البريطانيّة. هيوز تقول إنها كمؤرخة يُطلب إليها أحياناً تقييم أو مراجعة الأعمال الدراميّة التي فيها شخصيات نسائيّة تاريخيّة فتشعر بالرّعب من مقدار التلاعب الذي تراه بالحقائق التاريخيّة ليس للأغراض الأيديولوجيّة فحسب، بل وربما أكثر لتقديم الجانب الجنسي من حياة هؤلاء النسوة بناءً على النظريّة الكلاسيكيّة في صناعة الإعلام من أن «الجنس يبيع»، والجميع تقريباً في هذه الصناعة يعلم ذلك التجني على الحقيقة التاريخيّة لكن أحداً لم يفعل شيئاً لتصحيح التشوهات.
عند هيوز فإن شخصيّة مثل الملكة بوديكا تُصَوّر وكأن أهم ما يُعرف عنها شعرها الأحمر الطويل وعينيها الزرقاوين المتقدتين حماساً وشغفاً بينما كانت في الوقائع التاريخيّة عقلاً استراتيجياً جباراً استطاع أن يجمع جيشاً من البريطانيين أهل البلاد الأصليين ويواجه بهم جيوش روما ويسترجع منهم عدة مدن كبرى في الجزيرة قبل أن يتمكن الحاكم الروماني للبلاد من هزيمته أخيراً.
كذلك فإن الملكة ثيودورا زوجة الامبراطور البيزنطي جستنيان الأول لم تكن مجرد راقصة مُبهرة سحرت قلب الامبراطور كما تم صندقتها في هذه الصورة فحسب، بل كان لها تأثير كبير على عالم السياسة في أيامها بعد زواجها وهي كانت شخصيّاً وراء بناء كنيسة آيا صوفيّا التي تضم أكبر قبة في العالم قبل تحوّلها على يد العثمانيين إلى أحد أهم مساجد إمبراطوريتهم. والأمر شبيه بالطبع في حالة كليوبترا وهيلانة صور وغيرهن، إذ يتم نحتُ دوائر الأضواء واقتصارها على جمالهن وشبقهن وعلاقاتهن دون تقدير واقعي لعبقريتهن السياسيّة وتاثيرهن البالغ على مصائر الرجال والنساء في أزمنتهن التاريخيّة.

الخروج من دائرة الانتقاد إلى بوابة التغيير

لكن الأمر لم يطل بهذه المؤرخة النجمة التي لا شك أُصيبت بحمّى المبدع الحقيقي وهي هوس تغيير السائد والمُباح والمؤدلج ودخلت بقدمين واثقتين في مهمة تعديل تلك المعالجات المنحازة وغير الأمينة للشخصيات النسويّة التاريخيّة، وهي لذلك استقطبت مجموعة من النساء المنخرطات بالعمل الإعلامي وأعمال الدراما لتأسيس شركة إنتاج واستشارات (ساندستون غلوبال) تستهدف تقديم أعمال دراميّة ووثائقيّة ذات مصداقيّة تاريخيّة لا سيّما فيما يتعلق بالشخصيّات النسائيّة تحديداً إضافة إلى تقديم الأعمال الاستشاريّة للمنتجين بشأن دقة تمثيلات تلك الشخصيّات في نصوصهم أو أعمالهم قبل إنتاجها وقبل عرضها على الجمهور. وهي تقول إن شركتها ستقاوم ولو وحيدة كل نزوع في الدراما إلى تعليب نساء التاريخ داخل قوالب موضوعات جنسيّة وستُعيد طرح صورهن في سياقات دراميّة أو وثائقيّة أقرب إلى السجلات التاريخيّة المعروفة .
وبالفعل تألقت شركة هيوز ذات المهمة المُشرّفة بتقديم عملين هامين على شاشات بريطانيّة رائدة. ففي الأسبوع الماضي بدأت القناة الخامسة بعرض «ثمانية أيام صنعت روما» وهي سلسلة تستعرض أحداثاً محددة كانت مفصليّة في التاريخ الروماني وتُعطي النساء تمثيلات تتسم بدقة تاريخيّة وشفافية محضة لم تتوفر عليها الأعمال العديدة السابقة، وفي نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي ستعرض على القناة الرابعة أل (بي بي سي) فيلماً يستعرض قصة الإلهة فينوس في التراث الكلاسيكي، ويبدو أن هنالك عدة أعمال أخرى لها ما زالت في طور الانتاج ويمكن أن يرى بعضها النور قبل نهاية العام الحالي.
إذن، لا أوهام عند هيوز بالنسبة لقدرتها على تغيير تمثيلات النساء في فضاءات الدّراما الهائلة والمتباعدة الأطراف، لكنها تعتقد أن تقديم صُور موازية للطروحات الحاليّة المغرِقة بالجنس سيُصعب من مهمة المنتجين والمخرجين في تناول الشخصيات النسويّة التاريخيّة بخفّتهم المعهودة، وسيدفعهم عاجلاً أم آجلاً إلى تعديل نماذجهم لتقترب ولو تدريجيّاً من الشخصيّات التاريخيّة.
هيوز الشغوفة بالحقائق وصياغتها بعيدا عن جرثومة المرأة الجسد، ترأس منظمة خيريّة مهمة تُعرِّف ب(الكلاسيكيات) للجميع، وتستهدف حث المدارس العامّة البريطانية على تعليم الكلاسيكيات والتاريخ القديم بأساليب حديثة من خلال توفير الدّعم المالي والأدوات التعليميّة، وهي تقود حملات في إطار مجتمعها لجمع الأموال من الأثرياء والشركات لتحقيق تلك الغايات.

الشعب يريد مزيداً من الدقّة التاريخية

وفي الحقيقة فإن دراسات بريطانيّة أظهرت أن طلاب المدارس البريطانية يُظهرون اهتماماً متزايداً بالتاريخ وشخصياته لدى مشاهدتهم أعمالاً دراميّة فيها إشارات تاريخيّة مثل فيلم (غلادييتر) أو حتى (هاري بوتر) وكلماته السحريّة ذات الإيقاع اللاتيني، لكنّهم كثيراً ما ينتهون إلى تلقى صورة مشوهة عن الشخصيات التاريخيّة لا سيما النسويّة منها عندما يلجؤون إلى الأعمال الدراميّة أو الوثائقيّة لمعرفة المزيد. ولذا فإن هيوز تتوقعُ استقبالاً إيجابياً للأعمال التي هي أقرب للحقائق التاريخيّة سواء من قبل المؤسسات التعليميّة أو حتى الأهالي.
ومع أن البعض سيُجادل في معنى الدقّة التاريخيّة التي تُروج لها مؤرختنا على أساس أنها غالباً رواية ذات مضمون أيديولوجي مُعيّن قد يختلف أحياناً حدّ التعارض مع السرديات البديلة عن ذلك الحدث أو عن تلك الشخصيّة. ومع ذلك، فإنه ربما من صالح المتلقي مشاهدة عمل درامي أو وثائقي وفق سرديّة ما، دون أن تكون نتاج خيال منحرف متخلّف يريد تشيئة النساء واسترقاقهن من أجل المزيد من الأرباح، كما هو الحال السائد في الجُلّ الأعظم من صُناع الصورة اليوم.

شرف إطلاق الرصاصة الأولى في مهمة وكأنها رسولية

ربما لن تغيّر هيوز بشركتها الصغيرة التمثيلات المشوهة للمرأة في فضاءات البصريات، كما أنها ستعجز أحيانا في ذهابها إلى تصفيّة المُكون الأيديولوجي من السرديات دراميّة كانت أو وثائقيّة، لكنها بحق تُطلق الرصاصة الأولى في حرب تحرير النساء من النماذج المُغرِقة بتحويلهن إلى موضوعات جنسيّة دون أي احترام لإنجازاتهن المذهلة والبعيدة عن السرائر في سعيٍّ وكأنه مهمة رسولية للالتصاق بالدقّة التاريخيّة وتصفيتها من تفشي طاعون تشييئ المرأة وتعليبها كما حضور من جسد فحسب، إذعاناً لصوت (الجنس يبيع)، وتلك بَسالَة أخلاقية لا يعتمرها الكثيرون: رجالاً ونساءً.
إعلامية لبنانية تقيم في لندن

هذه ليست كليوبترا… وتلك ليست ثيودوراوحرب تحرير النساء من الموضوعات الجنسية

ندى حطيط

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ali zein:

    كل الشكر لهذا التقديم والتعريف لأهمية الدقة والتوخي للسرد التاريخي ..لأهمية ما يبنى عليه من حوار حضاري …في زمن هذا التشظي والعبث بالمخزون الانساني …ولتقديمك للمؤرخة البريطانيّة بيتاني هيوز والتي على الاقل انا لا اعرفها ..ويسرني وجود امثالها بهذا المهمة والتي بالتأكيد ليست سهلة ..مع الامل ان تنتقل عدواها الى ربوعنا …ولا نشك ابدا ببذورك الثقافية تحمليها الينا …بكل امانتك الاكاديمية

  2. يقول سوري:

    لا أشاطرك كثيرا الراي ياست ندى فملكاتنا السوريات الشهيرات كسميرا ميس الاشورية وجوليا دومنا الحمصية التي حكمت روما وزنوبيا التي كادت ان تهزم الامبراطور الروماني اوريليان مع كل جمالهن لا نرى فيهن المرأة – الجسد وكذلك المصريون لايرون في شجرة الدر جسدا ولا العراقيون في السيدة زبيدة امراة هارون الرشيد ولا التونسيون في عليسة الفينيقية، أو اليمنيون في بلقيس رغم تشميرها عن ساقها امام سليمان.. وسواهن كثيرات.. لكن بعض النساء الشهيرات في التاريخ ككليوباترا كانت شهرتها قائمة على عشقها عدوها في قصتها الشهيرة مع انطونيو وفضلت سريرها على وطنها ثم انتحرت لمقتل عشيقها وانتصار منافسه عليه، هناك ايضا ملكات اقترنت شهرتهن بشبقهن ككاترين الثانية امبراطورة روسيا. وهل يرى الباكستانيون في بينازير بوتو الوجه الجنسي فيها رغم جمالها..

  3. يقول فؤاد علام:

    لقد اصبتِ كبد الحقيقه
    ما يحدث هو استرقاق للمرأه وهي تظن انه تحرر وهو استغلال لها من وسائل الإعلام بتقديم الصوره علي المضمون.

  4. يقول سلام عادل(المانيا):

    في الافلام والمسلسلات التلفزيونية يتم تغيير كثير من الحقائق او يتم زيادة حقائق لغرض تجاري من اجل الربح فلذلك لا يعول عليها كمصدر تاريخي موثوق

  5. يقول سامح //الأردن:

    *بدون شك تم إستغلال الجانب المثير
    من المرأة (الجنس) قديما وحديثا.
    سلام

إشترك في قائمتنا البريدية