عندما نسمع أخبار مهاجرين من بلادنا ينجحون في دول المهجر يتبادر إلى اذهاننا أنهم حققوا ما كانوا يعجزون عن تحقيقه في بلدانهم الأصلية، وقد نلقي اللوم على ظروف بلادنا السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية التي وقفت عائقا امام طموح اشخاص فيهم بذرة التفوق، ولولا توفر العناية بها في المهجر لما أينعت واثمرت.
من جانب اخر يتعرض المهاجر مهما كان ناجحا ومتعايشا مع ظروف بلده الجديد إلى نوع من صراع الهويات، أو كما اسماها الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف صراع «الهويات القاتلة»، حيث يشده الحنين إلى جذوره الاولى بينما ما ترتب من حياته وإبداعه في المهجر يشده إلى الناحية الاخرى، وهنا لابد أن نتساءل، هل هنالك تراتب لأولوياتنا يمكن على أساسه أن نخطط للمقبل من حياتنا؟ وقد أجاب عن هذا التساؤل عالم النفس الامريكي أبراهام ماسلو في نظريته التي عرفت باسم «نظرية التحفيز الإنساني» والتي تعد اليوم من أبرز النظريات في عدد من الحقول المعرفية، ربما كان أهمها علم النفس الاجتماعي وعلم الإدارة، وهي نظرية سيكولوجية وضعها هذا العالم في بحث نشره عام 1943 في امريكا، يرى فيه أن الناس عندما يحققون احتياجاتهم الأساسية يسعون إلى تحقيق احتياجات ذات مستويات أعلى، وقد قام وفقا لذلك بترتيب الاحتياجات الانسانية في شكل هرمي، عرف بـ»هرم ماسلو» الذي يتكون من خمس طبقات أو مستويات، هي على الترتيب من الأسفل إلى الأعلى: ـ الحاجات العضوية (الفسيولوجية) ـ السلامة والأمان ـ الحب والانتماء ـ الاحترام والتقدير ـ إدراك وتحقيق الذات.
وتصنف الاحتياجات الأربعة (الاولى) الدنيا معا تحت مسمى «احتياجات العوَز»، بينا يصنف المستوى الخامس ضمن ما يعرف بـ»احتياجات النمو»، وهذا يعني بلغة مبسطة أن الانسان الطبيعي في اي مجتمع، لديه مجموعة من الاحتياجات وهذه الاحتياجات مرتبة على شكل طبقات يعلو بعضها بعضا، فالحاجة الاولى هي الحاجات العضوية مثل الأكل والشرب والنوم والسكن، فاذا توفرت هذه الاحتياجات فإن هذا الإنسان سيسعى إلى إشباع المستوى الاعلى من الاحتياجات المتمثل بالسلامة والأمن وبعدها سيبحث عن الحب و الانتماء والإخلاص والصداقة في المستوى الثالث، وبشكل مقارب لذلك في المستوى الرابع، إلا أن البحث يكون منصبا على الانجاز الذي يتبعه الاحترام والتقدير، وهنا يكون الفرد قد اشبع كل احتياجات العوز لديه لينطلق إلى المستوى الخامس والأخير، لتحقيق ذاته كإنسان من خلال الإبداع و الاكتفاء الذاتي وتحقيق الرسالة الشخصية .
لقد أصبحت هذه النظرية اليوم من الكلاسيكيات النظرية وجاء بعدها العديد من النظريات، إلا انها ماتزال تحظى بتقدير اكاديمي وعلمي كبير، وما يهمنا من هذه النظرية هو محاولة تطبيق ذلك على المهاجر الذي دفعته ظروف مختلفة لترك وطنه، فقد كانت مطالبه تسير بشكل حرفي وفق هذه النظرية، فهو يبحث اولا عن حاجاته الاساسية من مسكن وخدمات وأمان واحترام وتقدير وبعد توفر كل ذلك ربما سيسعى لتحقيق ذاته عبر الإبداع وتحقيق الرسالة الشخصية، فنحن اليوم امام ظاهرة (زوارق الموت) التي تنقل المهاجرين غير الشرعيين المتجهين إلى اوروبا، وربما تساءل البعض عن السبب الذي يدفع موجات من الشباب إلى إلقاء أنفسهم في أتون المجهول في مغامرة فيها احتمالية الفشل اكبر بكثير من احتمالية النجاح. كما يُطرح تساؤل آخر؛ ألا يوجد في بلدانهم الاصلية طعام أو سكن أو فرصة عمل؟ لكننا نرى وفقا لهرم ماسلو أن تحقيق بعض احتياجات العوز لدى الإنسان لا تعني إمكانية عيشه بصورة لائقة في بلده الأصلي، وهذا ما يدفع بموجات الهجرة إلى اوروبا بحثا عن امل العيش بطريقة انسانية.
كما أن الحروب وعدم الاستقرار السياسي في بلدان الشرق الاوسط وقفت بوحشية بوجه طموح الشباب لتحقيق احلامهم، فخطر الحرب والموت المتفشي في عدد من بلداننا مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن، يمثل تهديدا خطيرا على المستوى الثاني من مستويات الاحتياجات (السلامة والامان) فلا يمكن للإنسان أن يعيش حياة طبيعة في ظل الموت اليومي حتى إن تعايش معه، فيبقى هاجس البحث عن مكان آمن محركا لقلق الشاب الباحث عن الاستقرار حتى إن توفرت المستويات الاخرى من الحاجات الاساسية .
وإذا نظرنا إلى حال العراق، وهو منذ ما يزيد عن الربع قرن أحد اكبر مصادر الهجرة التي تدفع بموجات إلى مختلف بقاع العالم، مع العلم أن العراقيين طالما كانوا مرتبطين بوطنهم، أو كما يصفهم الدارسون بانهم شعب مستقر لا يحب الهجرة، لكن الظروف التي مر بها العراق في العقود الماضية دفعت بموجات من الهجرات إلى مناف متعددة، واذا نظرنا بتمعن إلى حال المهاجر سنجد أن الدافع الاساس في كثير من الحالات كان البحث عن اشباع «احتياجات العوز» التي اشارت لها نظرية ماسلو، ومن ثم البحث عن حاجة المهاجر إلى «احتياجات النمو» بعدما يستقر في المهجر ويصبح مواطنا له حقوق المواطن وعليه واجباته، حيث نجده يسعى إلى اثبات الذات عبر المشاركة الفاعلة في الحياة العامة في البلد الذي يقيم فيه .
وبصورة اكثر دقة يمكن أن نميز بين الجيل الأول من المهاجرين والأجيال اللاحقة على اساس «نظرية التحفيز الانساني» فنجد الاحتياجات الاساسية هي الهم الاول للمهاجر من الجيل الاول، حيث يكون همه اشباع حاجاته التي هاجر للبحث عنها من مسكن وعمل وأمان وحب وصداقة، والاحساس بالتقدير على ما يقدمه من انجازات. بينما يكون الجيل الثاني قد حصل على كفايته من الاحتياجات الاساسية التي أصبحت من المسلمات في دول المهجر، فيسعى وبقوة إلى إشباع احتياجات النمو عبر الدراسة والعمل وإثبات الذات، كما تجدر الإشارة إلى أن علاقة الجيل الاول بوطنه الام من القوة بحيث يمكن أن تمثل عائقا امام اندماجه مع مجتمعه الجديد، بينما يكون الامر اكثر سلاسة وسهولة بالنسبة للجيل الثاني الذي تربى في المجتمع الجديد وتطبع بطباعه، وهنا تثار مسألة صراع الهويات والسعي للمحافظة على الهوية الام في مجتمعات المهاجرين، إذ يرى بعض الباحثين أن هذا الصراع اكثر تمظهرا في علاقة الجيل الاول بالجيل الثاني، حيث يرى الاباء ابناءهم لا يبذلون ما يكفي من جهد لتعلم لغتهم الام أو الحفاظ على عاداتهم وتقالديهم، كما قد يسبب اندماج جيل الابناء في مجتمعاتهم الجديدة صدمة لآبائهم الذين تربوا وفق نمط سلوكيات مختلف، وهنا يقع المهاجر في فخ صراع الاحتياجات، فهو يريد أن يحوز ما يمنحه الغرب من إمكانيات إشباع احتياجاته التي هاجر بسببها وفي الوقت نفسه يريد أن يفرض على نفسه وعائلته نمطا من العيش قد لا يتناسب مع طبيعة المجتمع الجديد، وهذا الامر قد يولد صراعات عنيفة بين الجيل الاول والجيل الثاني من المهاجرين.
لذلك تسعى مؤسسات ومنظمات مجتمع مدني تقدم خدمات مختلفة في الغرب، هدفها التخفيف من حدة صراع الهويات التي تعيشها اجيال المهاجرين عبر فعالياتها التي تحتفي بالهوية الاصلية للمهاجرين، من خلال التعريف بها في مهرجانات وفعاليات لتمنحها شكلا إنسانيا يزيح عنها شكل المفهوم المتزمت أو العنصري الذي قد يفرضه الآباء على ابنائهم وفي الوقت نفسه تحاول هذه المؤسسات أن تجسر الهوة بين الابناء وابائهم عبر إفهام الجيل الاول ان ابناءهم باتوا مواطنين في المجتمع الجديد، ولهذه المواطنة متطلبات يجب تفهمها والتعامل معهم على أساسها، وخير طريق لذلك هو العمل على اشباع الحاجات العليا في اثبات الذات ليصل المهاجر إلى اشباع حاجات (ادراك وتحقيق الذات) وعندما يصل لذلك نكون قد حصلنا على عبقري مهاجر احتضنه بلده الجديد فأبدع.
كاتب عراقي
صادق الطائي
في عام 1995 انتشرت اشاعة في العراق المحاصر، بأن الأمم المتحدة ستقوم بتوزيع الحصص التموينية للموطنين وبشكل مباشر بدل الدولة. ركبت وقتها مع سائق تاكسي لا أزال أذكر كلماته لليوم، ٌقال: يا أخي نحن شعب كسلان بالمجمل ولولا أن الحصة التموينية بشكلها الحالي قليلة ولا تكفي، لما كان هنالك أي داعي لكي نعمل وننتج. بمعنى آخر، لو الأمم المتحدة فعلا ستوزع الحصة التموينية، وستكون هذه الحصه وفيرة وذات جودة (في بلد محاصر) فالشعب كله سيتقاعد، ولن تجد احدا يعمل.
تذكرت هذا الكلام قبل أيام حيث دار حوار حول المهاجرين، وقد تبين أن:
أ. أغلب المهاجرين لا يحضر الدروس التثقيفية والتعليمية وكأن الموضوع لا يعنيهم (سياحة) حتى أن أغلب الحكومات المستضيفة قد أصبحت تربط المساعدات المقدمة بالحضور (للدروس) والالتزام (بالبحث عن عمل).
ب. أغلب المهاجرين (فوق سن السادسة والثلاثين تحديدا) ينظر للدول المستظيفة على أنها سبب خراب بلاده أو على الأقل قد ساهمت به وعليه، فان من حقه عليهم ان يعوضوه بحياة كريمة (سكن، ومصروف، وغيره) وهذا لا يعتبر مساعدة أو تمنن، فقط تعويض بسيط.
أما الدول (المجتمعات) المستضيفة، فترى الموضوع بشكل مختلف تماما، فهذه مجتمعات تربت على مبدأ أنك ما أن بلغت الثامنة عشر من العمر فأنت مسؤولية نفسك.ِ مثل هذا المواطن، الذي لم تعطه الدولة ولا حتى أهله منذ سن الثامنة عشر (ويدفع ضريبة) مثل ما يعطى للاجئ في أقل من سنة، من السهل جدا ان يحقد على اللاجئ قبل حتى أن يتعرف عليه.
ربك المعين، يتممها بالستر.
الجذور لا تعني كثيرا عند الجيل الثالث في اكثر الامم ومنهم العرب و المسلمين الذين يفتقدون منظمات قوية او عصبيات عنصرية او دينية عميقة. اما اليهود فانهم حالة خاصة سواء لاسباب ذاتية او مواقف مفروضة عليهم من الامم التي يعيشون فيها.