هكذا تخترق إسرائيل دوائر صنع القرار

حجم الخط
2

وقع بين يدي تقرير قديم في تاريخه، ولكنه يصلح لكل زمان، نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية. يعود تاريخ هذا التقرير إلى شهر أغسطس من عام 2002، ويكشف أحد أهم أسرار نجاح إسرائيل والدعاية الصهيونية في فرض روايتها للأحداث في الشرق الأوسط، وترويجها في أوساط أصحاب القرار ووسائل الإعلام، التي تصنع الرأي العام، في العديد من دول العالم، لاسيما أوروبا والولايات المتحدة.
صحيح أن هذا التقرير قديم ولكن لا غضاضة في الحديث عنه، بعد كل هذه الأعوام، فآلة الدعاية الإسرائيلية الصهيونية لم ولن تتوقف عند زمن محدد او حد معين، والتذكير بأساليبها بين الحين والآخر، إذا لم يكن مفيدا لمن يريد المنفعة فإنه لا يضر في هذا الزمن، الذي تمر به المنطقة العربية والشرق الأوسط. وانا آخذ بالآية الكريمة «فذكر إن نفعت الذكرى». 
يقول كاتب التقرير وهو بريان ويتيكر، الذي ترك العمل في «الغارديان» عام 2007، «منذ فترة ليست بالقصيرة وانا أتلقى هدايا صغيرة من معهد سخي، مقره الولايات المتحدة.. والهدايا عبارة عن ترجمات من الدرجة الأولى لمقالات تنشرها صحف عربية، يبعثها المعهد إلى عنواني الإلكتروني من دون أي مقابل». 
ويكشف هذا، عن الأغراض الخفية لهذه الترجمات التي لا تفلت منها حتى الأنظمة العربية الموالية للولايات المتحدة مثل المملكة العربية السعودية. فعلى سبيل المثال لا الحصر فقد ترجم «ممري» قبل سنوات مقالا نشر في صحيفة «الرياض» السعودية  قال فيه كاتبه، إن اليهود يستخدمون دماء الأطفال المسيحيين والمسلمين في معجنات بمناسبة عيد البوريني «المساخر»، وهي رواية وردت في بروتوكولات صهيون، التي يشكك اليهود في صحتها. والمعلومة نشرت بالفعل ولكن التشويه الذي حصل هو الادعاء بأن الجريدة رسمية وتملكها الحكومة السعودية. والحقيقة أنها ملكية خاصة، وذلك لإعطاء الانطباع بأن الراوية تحظى بموافقة الحكومية السعودية. وهذه الترجمة وغيرها لم تكن بريئة، ولم تكن بحسن نية، بل أتت في حينه في سياق حملة لإقناع الولايات المتحدة بالتعامل مع السعودية كعدو وليست حليفا.
والمعهد المذكور هو «معهد أبحاث ميديا الشرق الأوسط (Middle East Media Research Institute) واختصاره «مِمْري» الذي يتخذ من واشنطن مقرا له، وله مكاتب في لندن وبرلين وعواصم أوروبية أخرى، وفي القدس المحتلة. وهذا المعهد باعتباره مؤسسة غير ربحية معفي من الضرائب بموجب القانون الأمريكي. و«ممري» هو مؤسسة يمينية متطرفة للدعاية الصهيونية، انتقائية في ترجماتها من الصحافة ووسائل الاعلام العربية والفارسية والاوردو والباشتية والتركية، والعبرية كما يُزعم، الى الإنكليزية، أسسه في عام 1998 يغآل كارمون، ضابط سابق في جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية «أمان» وميراف وورمسر وهي أمريكية إسرائيلية خبيرة في العلوم السياسية، وهي التي وضعت دراسة أكاديمية بعنوان «هل تستطيع إسرائيل البقاء ما بعد الصهيونية»، وهي بذلك ترى أن مثقفي اليسار الإسرائيلي يشكلون أكثر من مجرد خطر عابر على دولة إسرائيل، وهي تعتقد أن هذا اليسار  يضعف إرادة الدفاع عن النفس لإسرائيل، وهذا يعكس بالطبع مدى تطرفها الأيديولوجي.. وإذا كانت هذه هي وجهة نظرها في اليسار اليهودي في إسرائيل، فإنني بغنى عن معرفة موقفها من العرب والمسلمين عامة والفلسطينيين على وجه الخصوص.
ويزعم «ممري» أن هدفه جسر الهوة اللغوية بين الشرق الأوسط والغرب… وهذا هو الشعار الذي تجده عندما تزور موقعه على الانترنت.. لكن نقاده يقولون إنه بترجماته الانتقائية والمجتزأة وغير الدقيقة التي تخرج الموضوع من سياقه واختيار وجهات نظر المتطرفين وتجــــاهل الرأي السائد، إنما يعطي الغرب صورة سلبية عن العـــالمين العربي والإسلامي، وحسب ويتيكر فإن هذه الترجمات وهي عادة لأخبار وقصص مثيرة ومتطرفة ومسيئة للغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا، تصل أيضاً الى سياسيين وأكاديميين وصحافيين كثر.
ويقول ويتيكر، إنه رغم ما يقوله «ممري»عن نفسه، فان ثمة العديد من الأشياء تجعله يشعر بعدم الارتياح عندما كان يطلب منه مسؤولوه، الإطلاع على تقرير او قصة صحافية مصدرها «ممري». وسبب عدم الارتياح بالنسبة لويتيكر، هو السرية والغموض الذي يلف هذه المنظمة، وحسب قوله، فان موقعه الإلكتروني لا يعطي اسماء للاتصال بها للاستفسار ولا حتى يعطي عنوانا للمقر… وهذا ما تأكدت منه خلال الإعداد لهذا المقال.
ويبرر عامل سابق في هذا المعهد السرية المحاط بها بالقول، إنهم لا يريدون انتحاريين يقتحمون مكاتبهم صباح كل يوم اثنين، حسبما ذكر ويتيكر. وهذا يعتبر، احتياطات أمنية مفرطة بالنسبة لمعهد عمله ببساطة هو كسر حواجز اللغة بين الشرق والغرب كما يدعي.
وحسبما يقول المثل إذا عرف السبب بطل العجب.. وتتكشف أسباب السرية التي يحيط ممري نفسه بها عندما نتعرف على القائمين عليه، فالكولونيل كارمون قضى 22 عاما من حياته في جهاز الاستخبارات العسكرية «أمان» قبل ان يشغل منصب مستشار لمكافحة الإرهاب في حكومتي إسحق شامير (ليكود) في أواخر الثمانينات وإسحق رابين (عمــــل) في أوائل التسعينات وحتى اغتياله على يد يغآل عُمير، يميني متطرف معارض لاتفاق أوسلو، بينــــما كان يلــــقي خطابا في تجمع للسلام وســـط تل أبيب في 4 نوفمبر 1995. كما أن اثنين على الأقل من الشخصيات الست التي لم يعد «ممري» يذكر أسماءها في أدبياته، عملا في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية من المخابرات الخارجية «موساد» الى الأمن العام «الشاباك» فالعسكرية «أمان». ومن بين الثلاثة الاخرين هناك ضابط كبير عمل في قيادة منطقة الشمال.
والشيء الثاني الذي يثير التساؤل لدى ويتيكر، وغيره كما يقول، هو أن القصص والأخبار التي يختارها المعهد للترجمة، ذات طابع معين، إما أنها تنعكس سلبا على الشخصية العربية، أو أنها تعزز وتروج بشكل أو آخر للأجندة السياسية الإسرائيلية. ويرى البعض أن غرض «ممري» هو البحث عن أسوأ التصريحات في العالم الإسلامي وترجمتها ونشرها بسرعة وعلى أوسع نطاق ممكن لمزيد من تشويه الصورة العربية.
وقد ترد «ممري» حسب ويتيكر، على هذه الاتهامات بالقول، انها تسعى لتشجيع الاعتدال من خلال تسليط الأضواء على أسوأ أمثلة التطرّف وعدم التسامح. ولكن إن كانت هذه النية فلماذا لا تقدم على ترجمة ونشر المقالات المتطرفة في الصحافة ووسائل الإعلام العبرية، كما تتجنب ترجمة التصريحات الفاشية والعنصرية التي ينبح بها قادة اليمين والمتطرفون وبعض رجال الدين اليهودي ضد العرب.   وأي قارئ ومتابع منتظم للصحف العربية لا بد أن يكتشف وبسرعة أن المواد التي يترجمها «ممري»، هي تلك التي تلائم اجندته وهي، أي الترجمات، لا تعكس بشكل من الأشكال معظم ما ينشر.
وخطورة «ممري» بترجماته تكمن ليس في أن لا احد يشكك في دقتها وجودتها فحسب، ولكن الاختيارية في المقالات المترجمة وإخراج فقرات من مضمونها لخدمة أغراض الدعاية الصهيونية والتأليب على العرب، هذا أولا. وثانيا مدى تأثيرها على صناع القرار، خاصة في الولايات المتحدة وأكثر دقة في الكونغرس بشقيه، ومعظمهم إن لم يكون كلهم جهلة في قضايا الشرق الأوسط، لا يعرفون التفاصيل الدقيقة ولا يتابعون ما يكتب في صحافته وما يقال في إعلامه، والأسوأ من ذلك ان لديهم القابلية لتصديق أي شيء وكل شيء ضد العرب، خاصة إذا كان مصدره إسرائيليا ويخدم أجنداتهم السياسية. ومعظم السياسة الأمريكية تبنى على أساس مثل هذه التعميمات التي تبثها «ممري» من دون أي محاولة من قبل صناع القرار في واشنطن للتحري والتدقيق.
ومن بعض ما ينشر على موقعه الان يختار ما يتلاءم مع سياسته المؤيدة لليمين المتطرف في إسرائيل:
– في الأيام الأخيرة ودعما لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في معركته حول دعوة رئيس الأغلبية في الكونغرس له لإلقاء كلمة حول السلاح النووي الإيراني، وزع «ممري» ترجمات لمقال للدكتور أحمد الفرج الكاتب في صحيفة «الجزيرة» ادعت  فيه ان هذا الكاتب يؤيد قرار نتنياهو إلقاء خطاب في الكونغرس ضد الاتفاق النووي المتوقع مع ايران.
– وفي السياق ذاته نقل المعهد عن الكاتب السعودي في جريدة «الشرق الأوسط» طارق الحميد ان السياسة الامريكية بشأن المفاعل النووي الإيراني ستأتي بكوارث. 
– نقل مقتطفات من مقال للكاتب السعودي أيضا في جريدة «الشرق الأوسط» عبد الرحمن الراشد يرد فيه على وزير الخارجية جون كيري حول تصريحاته بشأن التعامل مع نظام بشار الأسد، يقول فيها ان كيري بتصريحاته هذه سيفتح أبواب جهنم على بلاده.
– وأخذ عن وزير  فلسطيني هو عماد العلمي القول إن على الفلسطينيين أن يتعلموا من الديمقراطية الإسرائيلية.
وختاما وجب التنبيه.. اللهم إني قد بلغت.. اللهم إني قد بلغت.

٭ كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

علي الصالح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامح // الامارات:

    * سبق وقلت : أنّ ( اسرائيل ) غارقة ب ( العنصرية ) و ( الإجرام )
    والتنكيل بالشعب الفلسطيني الأبي الكريم المظلوم .
    ** ومع كل سيئات ( اسرائيل ) المجرمة ( قاتلها الله )
    لها ( حسنة ) واحدة ؟؟؟
    ** ( عدم تزوير الإنتخابات ) وهذا هو الدرس الذي يجب أن
    نتعلمه منهم ع الرغم من عنصريتهم وإجرامهم .
    شكرا والشكر موصول للأخ ( الكاتب ) .

  2. يقول خالد بركات:

    أصبت الهدف يا سيدي. مقالك أكثر من رائع. كم أرجو وأتمنى من المخلصين في هذه الأمة بالرد على MEMRI بإنشاء مؤسسة منافسة لها، وتكون أشد وأقوى.

إشترك في قائمتنا البريدية