هل تتراجع إيران؟

ربما لن يكون حظ ترامب مع إيران بأسعد من حظه مع كوريا الشمالية، فقد سقط الرئيس الأمريكي في فخ صناعة الصور، وسعى لالتقاط صورة قمة عجائبية في سنغافورة، جمعته مع كيم الثالث وريث كوريا الشمالية أبا عن جد، وأغدق المديح على كيم الشاب، ظانا أنه يدير عقله، ويدفعه لنزع أسلحة بلاده النووية، ثم توالت الأسابيع والشهور، وثبت أن «زر» كيم النووي أقوى من زر ترامب المعطوب، وراح الأخير يبكى خيبته وهوانه الأمريكي، أمام التصميم الكوري الشمالي.
تصور ترامب أنه «كاوبوي» بما يكفي، ورجل أعمال بارع في فن عقد الصفقات، وأن لفتة حنان أمريكية إلى كيم، وعرض بتفريج كربات كوريا الشمالية الاقتصادية، قد يدفع بيونغ يانغ إلى التخلي فورا عن سلاحها النووي، وتدمير مخزونات صواريخها البعيدة المدى، القادرة على نقل الدمار النووي إلى أمريكا نفسها، وكانت تلك سذاجة لا تخفى على لبيب، ولا على كيم المحاصر في بلد صغير على حافة مجاعة دائمة، فلم يتعهد كيم سوى بعبارة غائمة عن «نزع السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية»، أي أنه اشترط نزع المظلة النووية الأمريكية عن كوريا الجنوبية أولا، وقد تعودت بيونغ يانغ على استعمال هذه العبارة المراوغة، وعلى مدى عقود طويلة، وبدون أن يحدث شيء آخر، سوى المزيد من تعزيز القوة النووية والصاروخية لكوريا الشمالية، وهو ما لم يلتفت إليه ترامب، بقدراته العقلية المتواضعة، وجهله العميم بتطورات السياسة الدولية، التي جعلت كوريا الشمالية في حمى التنين الصيني، وهو ما لم يدركه ترامب إلا متأخرا، وبعد أن شعر بالخازوق يمتد إلى حلقه، وصرخ متوجعا من الصين التي تعيق صفقته مع كيم الثالث.
ولأن ترامب غير قابل للتعلم، ولا يستوعب دروسا، ولا يعتبر بعظات، فقد سعى ثانية لسرقة الكاميرا على المسرح الدولي، وعرض على الرئيس الإيراني عقد قمة تفاوض بغير شروط مسبقة، ولمجرد أنه انسحب من الاتفاق النووي مع إيران، وقبل أن يبدأ تطبيق سلاسل العقوبات الجديدة على طهران، وكان طبيعيا أن تسخر إيران من دعوة الرئيس الأمريكي، الذي تصور أن متاعب إيران الاقتصادية كفيلة بتركيعها، وبدون قراءة ولا تدبر في دروس التاريخ القريب الممتد، فقد ظلت إيران محاصرة أمريكيا لنحو أربعة عقود، ولم تكن أحوالها الاقتصادية في أي وقت على ما يرام، لكنها صنعت حضورها الخاص، وبنت صناعاتها وقوتها العسكرية والصاروخية وتقدمها النووي بفضل الحصار بالذات، وأرغمت واشنطن في النهاية على عقد اتفاق نووي ملائم لطهران، يتصور ترامب اليوم، أن تجاوزه، والعودة لفرض عقوبات أشد غلظة، قد يجبر النظام الإيراني على الركوع، وطلب الاستسلام لأمريكا فورا، وهو ما لن يحدث غالبا، فلن يكون نصيب ترامب مع إيران أقل بؤسا من نصيبه مع كوريا الشمالية، مع فوارق منظورة كلها لصالح طهران، فإيران بلد يتمتع بموارد بترول وغاز طبيعي هائلة، لا تقارن بالطبع بفقر وبؤس موارد كوريا الشمالية المستعصية على الجبروت الأمريكي.
وكما لم يلحظ ترامب تمتع كوريا الشمالية بحماية الصين، فإنه لا يلحظ خرائط تحالفات واسعة تسند إيران، وتبني جدار وقاية وحماية من حولها، فالصين ـ أيضا ـ تقف مع إيران، وهي أكبر مستورد ومستهلك للبترول في العالم اليوم، والهند المجاورة لإيران لن تنصاع كليا للترهيب الأمريكي، ولن تمتنع كليا عن استيراد بترول إيران كما تريد واشنطن، وحتى دول أوروبية عديدة، قد لا تنفذ الأمر الأمريكي القاضي بحرمان طهران من تصدير بترولها، رغم عوائق التحويلات المالية، التي قد تضعف عوائد إيران من العملات الصعبة، وتضيف إلى الإنهاك الاقتصادي الداخلي، الذى وصل إلى ذروته بانهيار مريع في سعر صرف العملة الإيرانية، وتوالي موجات التضخم وارتفاع الأسعار، وتزايد احتمالات القلاقل الداخلية، وتصاعد الشد والجذب بين المحافظين والإصلاحيين في النظام الإيراني، التي قد تطيح برؤوس، لكنها ـ على الأغلب ـ لن تطيح بالنظام نفسه، فقد تعود النظام الإيراني على سياسة النفس الطويل، وتوظيف تناقضاته الداخلية في اللعبة الدولية، وفتح خطوط تفاوض سرية تتحسب للاحتمالات الأسوأ.
ولدى النظام الإيراني هذه المرة ما يكفي من أوراق اللعب، بدءا من سياسة الهمس في الآذان عبر سلطنة عمان الصغيرة، التي لعبت دورا سابقا في التمهيد لعقد الاتفاق النووي، إلى استثمار العلاقة الخاصة مع قطر، إلى استمرار تبادل اقتصادي وتجاري بوتيرة عالية مع دولة الإمارات، رغم الخلاف المعلن، إلى الضغط على المملكة السعودية بصواريخ تضعها في يد الحوثيين باليمن، إلى اضطرار تركيا إلى الاعتماد على البترول والغاز الإيراني، إلى التواجد الإيراني الكثيف المباشر في العراق وسوريا، ضغطا على أعصاب أمريكا الحساسة، إلى العلاقات الإيرانية المميزة مع روسيا بالطبع، التي تتعرض هي أيضا لعقوبات أمريكية، وتسعى لاستثمار ورقة إيران إلى المدى الأقصى كسرا لهيمنة أمريكا الدولية.
والمثير، أن ترامب نفسه، وبدون أن يدري، قد يكون هو حبل نجاة إيران، ليس لأنه قد يتراجع عن فرض العقوبات على طهران، ولا عن استكمالها بعقوبات وقف تصدير البترول الإيراني بدءا من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بل لأنه، أي ترامب، أفرط في حماقة فرض العقوبات واستعداء الجميع، وبدون أن يستثني قوة عسكرية أو اقتصادية ذات شأن، ومن أول جيرانه في كندا، إلى حلفاء أمريكا التقليديين عبر الأطلنطى في دول الاتحاد الأوروبي، وإلى الصين التي دخل معها في حرب «تكسير عظام» تجارية، ردت فيها بكين «الصاع صاعين» لواشنطن، وقررت تطوير قوتها العسكرية والنووية والصاروخية والفضائية إلى أبعد مدى، مستندة إلى فوائض مالية فلكية الأرقام، وإلى تريليونات في حوزتها من احتياطي النقد ومن أذون الخزانة الأمريكية، فلم يفهم ترامب بعد، ولا فهمت أمريكا من قبله، أن العالم تغير بشدة، وأن عالم القطب الأمريكي الوحيد المتحكم، سقط إلى غير رجعة، وأن أمريكا نزلت من مكانة «القوة العظمى» بالألف واللام، إلى مجرد «قوة عظمى» بين آخرين، يجري نتف ريشها، وتجريف زوائد قوتها في الاقتصاد والسلاح دوليا، وتصعد قوى أخرى، أهمها «التنين الصيني» اقتصاديا وتكنولوجيا، و»الدب الروسي» عسكريا، وربما الجديد المضاف اليوم، أن الصاعدين يجتمعون لحماية مصالحهم، على طريقة مناورة الجيشين الروسي والصيني ذات الثلاثمئة ألف جندي المعد لها، وعلى طريقة «تحالف شنغهاي»، الذي يضم الصين وروسيا والهند ودول قلب آسيا، ومبادرات «الحزام» و»الطريق» التي تواصلها بكين على خرائط المعمورة كلها، وبإنفاق تريليوني سخي، تستفيد منه أطراف عدة، بينها إيران على نحو مرئي، فالشركات الصينية الكبرى، تأخذ مكان الشركات الأوروبية الهاربة من إيران تخوفا من العقوبات الأمريكية، فالأوروبيون قد يخضعون مكرهين أحيانا للضغط الأمريكي، لكن قوى الشرق الصاعدة تعاند وتتحدى واشنطن.
والمحصلة ظاهرة، فالعقوبات الأمريكية، ما مضى منها، وما يأتي، تنهك إيران جدا بالتأكيد، لكنها لن تقتلها، ولن تؤدي على الأغلب إلى تغيير وقلب نظامها، فإيران لا تنام هذه المرة على وسادة خالية، ولديها أطواق حماية ودواعي صمود محيطة، صحيح أن أحوالها الداخلية أسوأ، وأن مقدرة نظامها المغلق على التصحيح الذاتي تبدو جد محدودة، لكن النظام بلا بديل جاهز، خاصة في ظل العدوانية الأمريكية المعلنة، التي تلعب دورا في دعم النظام شعبيا، فوق ما يملكه النظام الإيراني من موارد إخضاع وقهر ديني وأمني، يزيدها الحصار الأمريكي صلابة في المدى المنظور، ولا تملك أمريكا أن تشن حربا مسلحة على إيران، وهو ما يعني «بوليصة تأمين» إضافية لبقاء النظام، فيما يتعرض ترامب ورئاسته لهزة عنيفة في واشنطن، ففضائح ترامب تتناسل كل يوم، وكل الذين عملوا معه يبيعونه مقابل الحصانة في تحقيقات روبرت مولر، وفرص عزل ترامب واردة جدا، إذا نجح خصومه الديمقراطيون في الفوز بانتخابات التجديد النصفي للكونغرس المقررة في نوفمبر المقبل، وفي تواقت موح مع موعد وصول عقوبات أمريكا على طهران إلى ذروتها، وإذا فاز الديمقراطيون، فقد يعني ذلك دفن العقوبات في مهدها، وإذا لم يفوزوا، فسوف يبقى ترامب في وضع «البطة العرجاء» إلى نهاية مدته التي تنتظرها طهران.
يبقى أن ندرك نحن العرب، أن ترامب يخوض حربه ضد إيران لمصلحة إسرائيل حصرا، وليس لصالح ممالك عربية دفعت مئات مليارات الدولارات هدايا لترامب، وانتظرت منه نجدة لن تجيء أبدا، بينما اكتفت أطراف عربية كبرى كمصر، بالوقوف على شاطئ الحوادث، ربما انتظارا لوصول الجثث حتى حافة النهر.
كاتب مصري

هل تتراجع إيران؟

عبد الحليم قنديل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية