شكّلت تجربة حزب الله في لبنان نموذجا للإسلوب الإيراني في التعامل مع إسرائيل، على طريقة حياكة السجاد الإيراني، حثيث لكن بنفس طويل.
ونتحدث هنا عن أداء الحزب في شقه المواجه لإسرائيل، وليس الطائفي الموجه للداخل اللبناني ثم السوري لاحقا، رغم أن هذا الاخير، يمثل نمطا إيرانيا آخر، غاية في الأهمية، في كيفية حيازة واحتكار»شرف المواجهة مع العدو»، واستثماره كدعاية عالية الربحية للمشروع الطائفي الداخلي، بحيث يتحول مقاوم درزي يساري كسمير القنطار، إلى مناصر لحزب ديني أصولي ويقتل في صفوفه.
القنطار، الذي اغتالته إسرائيل في سوريا عام 2015، كان يعمل على تشكيل فصائل «مقاومة» في الجولان الذي يقطنه تجمع كبير من أبناء طائفته الدرزية، بحسب مصادر متعددة، أحدها محلل أمني نشر تقريره حينها في الصحافة الاسرائيلية، ويمثل القنطار على ما يبدو، أحد حلقات الوصل بين نموذج حزب الله في لبنان والنموذج الذي بدأت إيران ومنظومتها بالعمل عليه منذ سنوات، وهو إنتاج نسخة من حزب الله في الجولان السوري.
فحزب الله مشروع مربح لإيران في المنطقة مقارنة بكلفته، حتى اذا نظرنا للكلفة المادية في ظل معاناة إيران من نظام العقوبات الاقتصادية لسنوات، فعلى مدى 15 عاما، لم تنفق إيران على حزب الله، بقدر ما انفقت السعودية على صفقة سلاح واحدة مع الولايات المتحدة، سلاح يتحول إما لقطع حديد صدئ أو يعجز عن حسم معركة مع مقاتلين جبليين من أقلية حوثية، لم يكلفوا إيران ربع ما أنفقته الرياض للآن على حربهم الفاشلة. لذلك فإن التنظيمات الشيعية الموالية لإيران، تحقق لها كقوة ردع ونفوذ، ما يماثل ربما القنبلة النووية!
واذا عدنا لمقارنة نموذج جنوب لبنان، فسنجد أنه وفي مناسبتين، تمكن حزب الله من تحقيق قدر ما من الندية في المواجهة مع اسرائيل الدولة النووية، الأولى كانت عند انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، والثانية في حرب تموز 2006، فالمناسبة الاولى جاءت بعد سنوات من اشتباكات متواصلة استنزفت الجانب الإسرائيلي، وشكّلت رأيا عاما ضاغطا في إسرائيل، يدعو للتخلص من عبء جبهة الجنوب، حتى جاء رئيس الوزراء ايهود باراك وجعل الانسحاب من جنوب لبنان أحد وعوده الانتخابية، لينفذه بعد انتخابه عام 2000، ويمكن للقارئ المتتبع أن يجد في مذكرات الجنود الإسرائيليين الذين خدموا في جنوب لبنان، ما يشير إلى حالة التململ في صفوف القيادة الاسرائيلية، من حرب العصابات المكلفة، كما ذهب عدد من المحللين الاسرائيليين حينها، للحديث عن حالة «ردع متبادل»، رغم تفاوت القوى العسكرية التقليدية، وجاءت المواجهة الثانية في حرب تموز، لتؤكد ما سبق وتم اختباره على مدى سنوات التسعينيات جنوب نهر الليطاني، بأن الجيوش النظامية لا تملك حلولا حاسمة بمواجهة حروب العصابات، إن تآزرت معها ظروف محلية معينة كما توافرت بجنوب لبنان.
هذه التجربة اذن، مثلت أول أذرع ومخالب طهران في المشرق، ومعها جاءت حالة الحوثيين، والحشد الشيعي، وكلها تستند إلى مقومات مشتركة من الاحزاب العقدية إلى الإسلوب القتالي الخاص بالقوى المسلحة الشعبية غير النظامية المستندة لحواضن خصبة.
وتشترك حالة الجولان السوري، مع جنوب لبنان، بأن المواجهة إن حصلت، فهي تتطلب حسابات شديدة التعقيد، لأنها مع قوة إقليمية متفوقة كإسرائيل، ومن ورائها قوة عظمى كالولايات المتحدة، لا تريد إيران الدخول معها بحرب «كسر عظم» غير قادرة عليها، لذلك فإن التكتيك الذي يمكن لإيران اتباعه، هو دعم قوة مسلحة محلية والتنصل من التبعات السياسية للمواجهة المباشرة، ومن ثم استثمار نجاحاتها، وهو ما يمكن ملاحظته في تصريح الإيرانيين قبل أيام عن الهجوم الصاروخي على الجولان، حيث نفوا مسؤوليتهم عنه، وهم يتبعون الاسلوب القديم نفسه مع حزب الله، الذي لم يكن ايرانيا بشكل رسمي، ولكنه في الوقت نفسه عضو اصيل في منظومة إيران على عدة أصعدة، وهم بذلك يستثمرون ثغرات في قواعد اللعبة الدولية التي لا تعترف إلا بشخصية الدولة القطرية، ولم تعد تستوعب وجود كيان عسكري وعقدي واحد في اربع دول مختلفة!
وهكذا فان ملامح النسخة السورية لحزب الله في الجولان، التي قد تعمل إيران على تشكيلها العامين المقبلين، خصوصا بعد الانتهاء من إكمال مهمتها بدعم استعادة سيطرة الاسد على مناطق المعارضة، ستعتمد على ميليشيات مسلحة تنفذ عمليات خاطفة عبر الحدود في الجولان، ولكنها بالوقت نفسه محدودة، بحيث تضمن بالمقابل محدودية رد الفعل الإسرائيلي، قد تتركز على قصف مواقع في الجولان، طائرات مسيرة، مهاجمة جنود في نقاط حراسة وثكنات بالجولان، في عمليات استنزاف متقطعة قد تستمر لسنوات، وكما كانت دفعة الصواريخ الاخيرة الموجهة نحو الجولان حصرا، فإنه من المرجح أن إيران تريد ايصال رسالة، أن هدفها هو الوصول في نهاية المطاف لتسوية تعيد الجولان لحليفها الاسد، وليس الهجوم على إسرائيل أو تهديد امنها الداخلي، وبالمقابل فإن إيران وحلفاءها اليوم ليسوا في وضع يسمح لهم بمواصلة الاشتباك مع إسرائيل قبل اتمام تثبيت سلطة الاسد في سوريا، وهذا كان واضحا في الهجوم الاخير الذي كان خجولا وضعيفا، مقابل رد إسرائيل الواسع، فهو كان مجرد رد رمزي لحفظ ماء وجه إيران لا اكثر.
وهنا يتبادر للأذهان التساؤل عن توجه إسرائيل والولايات المتحدة لحسم المواجهة مع إيران وأذرعها في المنطقة، وتدمير كل الشبكات المرتبطة عضويا بطهران، ومنها هذا المشروع المفترض في الجولان، وهو بلا شك طرح يثار حاليا بعد إعلان ترامب إلغاء الاتفاق النووي، ومغادرة سياسة الاحتواء الامريكي لإيران في ساحات العراق وسوريا، التي اضطر لها الامريكيون لعدم قدرتهم على مواجهة عدوين في آن، بعد احتلال العراق، إيران والمقاومة السنية والجهاديين من بعدهم في العراق، ومن ثم سوريا، إلى أن تم إجهاض التهديد الجهادي في العراق، وإزالة الفوضى الثورية التي كانت تشكل خطرا على استقرار النظام الأقل خطرا عليهم من الأسد، لتبدو المرحلة الآن اكثر تهيؤا لاستدارة استراتيجية امريكية اسرائيلية لقصقصة اجنحة طهران. لكن، وبعيدا عن الخوض في طبيعة المواجهة المرتقبة وإمكانيات كل طرف، فإن شكوكا تحيط بإمكانية حسم المواجهة بسهولة مع الحلف الايراني، خصوصا اذا تذكرنا أن محاولة كهذه حصلت بالفعل مع إحدى اذرعها في جنوب لبنان عام 2006، وها هو حزب الله بعد 12 عاما اكثر قوة، وفي الوقت نفسه، فإن إيران اكثر قوة، متحررة من قيود العقوبات الاقتصادية الخانقة، وأذرعها اكثر تمددا، وتكلفة مواجهتها من صنعاء حتى بغداد وبيروت باتت اعلى، وبالمقابل فإن هيمنة امريكا في الشرق الاوسط اليوم اكثر تراجعا من أي وقت مضى، أمام روسيا التي رسخت أقدامها، وهي الشريك الإيراني في مناهضة النفوذ الامريكي.
صحيح أن روسيا لن تقف مع إيران ضد إسرائيل في اي مواجهة، لكن الصحيح ايضا انها تمثل «خط رجعة» جيدا لطهران، و»مطفأة حريق» لاي تصعيد خطير محتمل، ووسيطا دوليا قد يلعب دورا في اتمام تسويات مقبلة.
التوازنات لا توحي اذن، بامكانية حسم هذه المواجهة سريعا مع ايران، بل هي حرب باردة جديدة ستدوم على الاغلب لسنوات، بانتظار توازنات جديدة ترجح قوة طرف على الاخر، والى ذلك الحين فإن صاحب القدرة على المطاولة سيمتلك فرصة كبيرة، خصوصا إن اتقن حياكة خططه كصناعة السجاد الإيراني، حثيث وبنفس طويل.
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»
وائل عصام
أخي وائل عصام لك كل التقدير على هذا التحليل. أنا شخصيا أعتقد أن الجولان يختلف تماما عن جنوب لبنان والدروز في الجولان يختلفون عن انصار حزب الله والعقائدية الدينية المرتبطة بإيران. الصحيح في كلتا الحالتين أن النظام السوري هو الذي منع قيام مقاومة فلسطينية في الجولان أو أن تنطلق منه, ودمر وساعد إسرائيل على تدمير المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان. وكان هذا هو العامل الأهم لإسرائيل ولهذا ظل النظام السوري هو الصديق الضمني لإسرائيل. ومن ثم لنفرض أن إيران تسعى لذلك أي إعادة تجربة حزب الله في الجولان, فهذا أولاً وأخيراً لدعم بشار الاسد كي يتم إضافة بعض المكياج على وجهه الشيطاني ليصبح مقبولا, وتجني إيران منه سيطرة أقوى على المنطقة وليس أبداً لزعزعة أمن إسرائيل فهذا لايدخل في حسابات النظام السوري ولاحتى إيران برأيي, لأن هذا الأمر بيد روسيا أولا وأخيرا وهذه الأخيرة لها حساباتها وهي قد تلعب مع إيران هذه اللعبة لاستغلالها لكن حدود إيران هنا واضحة. وأخيرا إذا صح قولك بأن حرب باردة جديدة ستدوم على الاغلب لسنوات, المشكلة هي أن الشعب السوري سيكون فيها هو الخاسر الأكبر وربما الأوحد, على عكس ماحصل في جنوب لبنان حيث كانت خسارة إسرائبل لايستهان بها.