هذا بالضبط ما تشير إليه المعارك العنيفة الدائرة في ريف حلب الشمالي بدعم قوي من الطيران الروسي. ويلخص مشهد الفيديو الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي لإخراج طفل من تحت الأنقاض، بعد إحدى جولات القصف الروسي على مدينة حريتان، الثمن الدموي الباهظ لما تريده روسيا من إخراج أنقرة تماماً من الصراع في سوريا وعليها.
منذ إسقاط تركيا لطائرة السوخوي الروسية عند الحدود، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وروسيا تعمل بكامل طاقتها على رد قاس لا يبقي شيئاً لأنقرة في المعادلات السورية. هذا الرد الذي بدأ باستعادة بلدة سلمى في جبل الأكراد لمصلحة النظام، واستؤنف باستعادة ربيعة في جبل التركمان، دفع النظام إلى الاسترخاء في اللاذقية ورفع السواتر الترابية وإزالة الحواجز المزمنة في هذه المدينة التي تعيش خارج الحرب.
ومن ناحية أخرى، كثفت روسيا قصفها لريف حلب الشمالي لتساعد قوات النظام وقوات «جيش الثوار» الملحق بقوات الحماية الشعبية (صالح مسلم) على التقدم في تلك المنطقة الحيوية التي طالما طالبت تركيا واشنطن بجعلها «منطقة آمنة» دون أن تلقى منها آذاناً صاغية. والحال أن الفصائل المعتدلة الموجودة هناك (الجبهة الشامية بصورة رئيسية) المدعومة من تركيا والولايات المتحدة باتت محصورة بين ثلاث قوى تحاربها تحت المظلة الجوية للطيران الروسي. وهي داعش من الشرق، وقوات الحماية الشعبية الكردية من الغرب، وقوات النظام من الجنوب، في الوقت الذي باتت فيه تركيا، من الشمال، خاضعة عملياً لحظر طيرانها بسب سيطرة الطيران الروسي على الجو في تلك المنطقة. وتبدو حظوظ صمود الثوار هناك ضعيفة جداً ما لم تحدث معجزة توقف قصف الطيران الروسي. وهذا غير ممكن إلا في واحدة من حالتين: إما إنذار أمريكي جدي لموسكو بوقف قصفها هناك، أو تزويد الثوار بصواريخ ستينغر مضادة للطيران. والأمران مستبعدا الحدوث في الوقت الذي بدأت فيه حملة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، ويريد أوباما انهاء سنته الأخيرة في البيت الأبيض بدون صدام مباشر مع موسكو. يمكن القول، إذن، أن سقوط الريف الشمالي لمدينة حلب أصبح مسألة وقت، في غياب المعجزات. ستكون لهذا السقوط نتائج كبيرة جداً على موازين القوة في الشمال، وعلى المستوى الوطني، ما سينعكس بصورة سلبية على العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة في جنيف. فسيطرة النظام وحليفه الموضوعي «قوات حماية الشعب» الكردية على تلك المنطقة، سيعني قطع آخر مدخل لوجستي تركي إلى الداخل السوري، ما يعني خنقاً تاماً لمدينة حلب نفسها. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن القصف الروسي المكثف قد بدأ على مدينة منبج أيضاً، بصورة متزامنة مع القصف على الريف الشمالي، أمكن لنا توقع تقدم سريع لقوات حماية الشعب من جهة الشرق أيضاً، على حساب داعش هذه المرة، باتجاه جرابلس وصولاً إلى اعزاز.
هذا هو السيناريو الكارثي بالنسبة لأنقرة. فهو من جهة يقطع صلاتها تماماً مع الفصائل المعارضة المقربة منها، ويتيح، من جهة أخرى سيطرة القوات الكردية على كامل شريطها الحدودي مع سوريا، ليتحقق الكابوس الذي طالما قض مضاجعها: كيان كردي على طول حدودها الجنوبية في الوقت الذي تخوض فيه حربها الداخلية ضد حزب العمال الكردستاني في الولايات الجنوبية الشرقية من الأناضول. خاصةً بعدما أفرغ القصف الروسي جبل التركمان من سكانه وخسرت أنقرة بذلك ورقتها التركمانية.
من زاوية نظر المحتل الروسي، ستعني سيطرة حلفائها على الأرض ـ النظام والقوات الكردية ـ تكريس دور موسكو بوصفها المقرر الأول لمصير سوريا في أي حل سياسي. ومن ناحية أخرى سيشكل إخراج أنقرة من المعادلات السورية مدخلاً لإدخال صالح مسلم إلى مفاوضات جنيف بعد تأخير قليل. وهذا ما من شأنه دفع وفد المعارضة المدعومة سعودياً إلى مغادرة جنيف. يبدو هذا الانسحاب الذي يضغط الرأي العام المعارض حالياً باتجاهه، أمراً لا مفر منه في ظل التطورات الميدانية المذكورة أعلاه. يبقى أنه من الضروري دراسة التوقيت الأنسب والسياق الأنسب لهذا الانسحاب بما يخفض أضراره إلى أدنى مستوياتها، ومع تنسيق كامل مع الدول الحليفة والصديقة. هل يمكن ضمان تفهم إيجابي لهذا الانسحاب من قبل الإدارة الأمريكية؟ هذه هي مهمة الدبلوماسية السعودية والهيئة العليا للمفاوضات. ويمكن أن يساعد على تحقيق هذا الهدف خشية أمريكية واضحة من التحالف الروسي ـ الكردي الذي يتبلور على الأرض على حساب التحالف الأمريكي ـ الكردي. هذا ما يمكن استشفافه من الزيارة المفاجئة التي قام بها ممثل الرئيس الأمريكي في التحالف الدولي لمحاربة داعش برت ماك غورك، بصحبة ممثلي بريطانيا وفرنسا، إلى بلدة كوباني، قبل أيام، والوعود التي أطلقها هناك لقوات حماية الشعب بدعم مشاركة صالح مسلم في مفاوضات جنيف.
حزب الاتحاد الديمقراطي بقيادة صالح مسلم، يحاول أن يحافظ على تحالفه مع الولايات المتحدة وروسيا معاً في وقت واحد، بما يدعم أجندته الخاصة إلى أقصى حد ممكن. لكنه قد يضطر، قبل انقضاء وقت طويل، إلى الاختيار بينهما. فهزيمة الثوار المتوقعة في الريف الشمالي تشكل، في الوقت نفسه، خسارة لواشنطن أيضاً، خاصةً إذا تمكن الروسي من التفرد بتحالفه مع «الاتحاد الديمقراطي» على حساب واشنطن وأنقرة معاً.
لا يسعى هذا التحليل إلى بث التشاؤم واليأس، بل إلى الإشارة إلى مدى خطورة معركة شمال حلب على مجمل الوضع في سوريا. وإلى قدرة واشنطن على وقف هذا السيناريو عند نقطة معينة قبل أن تقع الفأس في الرأس.
رأس السوريين طبعاً.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي