بدءا أحبّ أن أذكّر بأنّني، في مثل هذه المقالات، لا ألبس بُرْد المعلّم، ولا أجلس مجلس المُحكَّمين المتنفّذين، فما أنا إلاّ قارئ تؤرّقه مثل آخرين كثيرين؛ هذه الأوضاع العربيّة المتحوّلة التي تكاد تكون في تفرّعاتها، صورة من «الجذر التربيعي» كُنه اللغة العربيّة وأصلها. والعربيّة هي اللغة الساميّة الوحيدة التي ترتكز على وزن واحد، تتولّد منه فروع اللغة وأغصانها وأوراقها. ومن الميسور دائما إرجاع كلّ الكلمات العربيّة من أسماء وأفعال، إلى ذلك الجذر؛ ما جاء منها على وزن اسم الفاعل أو على وزن اسم المفعول أو المصدر أو اسم الآلة أو أفعل التفضيل… والأغرب أنّ كلّ هذه الصيغ الاشتقاقيّة صيغ وزنيّة إيقاعيّة. وبسبب من ذلك سمّاها العرب أوزانا، لا في علم العروض فقط، وإنّما في علم الصرف أيضا. وعددها لا يتجاوز العشرين، أي أقلّ بقليل من عدد الدول العربيّة. لكن إذا أمكن ردّ الأفعال والأسماء بما فيها الأسماء الجامدة إلى ذلك الجذر؛ فهل يمكن أن تردّ «عقدتنا الحضاريّة» إلى موقف «ثابت» من المرأة أو إلى «عقدة الأوديب العربي» كما نجد عند بعض مفكّرينا وعلمائنا؟
يخضع السياق الحضاري الذي تتحدّد فيه العلاقة بين الجسد واللغة والأمّ في المجتمعات العربيّة على اختلافها إلى حدّ التباين بالجملة لتأثير مزدوج؛ كما يؤكّد عالم الاجتماع التونسي عبد الوهاب بوحديبة: تأثير التقاليد الأبويّة الذكوريّة التي تضفي على المرأة والطفل كليهما وعلى الصلات المتبادلة بينهما حشدا من الصور المتواترة المتميّزة، من ناحية وتأثير المشروع الحضاري التحديثي الذي يحاول أن يبتعث في هذه الصور الثابتة، قيما وتقاليد «مغرّبة» و»تاريخانيّة» من ناحية أخرى.
والطفل في المجتمع العربي إنّما يُوكل عادة إلى الأمّ، فتنطبع حياته بكثير من خصائص شخصيّتها؛ إذ هي التي ترسي في مرحلة الطفولة الأولى، علاقته بجسده وبلغته ومجتمعه. ومن ثمّة فإنّ «الليبيدو» يجد صعوبة كبيرة في أن يتركّز في غير جسد الأم، أو جسد الطفل نفسه. وهذه العلاقة الخاصة تؤكّد أنّ «عقدة أوديب»، وإن كانت ظاهرة انسانيّة عامّة، فإنّها تختلف من مجتمع إلى آخر. وفي المجتمع العربي الذي لا يزال محكوما بسلطة الأب، لا يمكن إلاّ أن يكون لهذه العقدة خصوصيّتها. ولذلك فإنّ اعتماد المنهج النفسي في معاينة العلاقة المثيرة بين جسد الطفل وجسد الأمّ، يستوجب الوصل بين»الأوديب» العربي والإجتماع الذي ينشئه، وتميّز الخطوط الدقيقة التي تصله بغيره من صورة «الأوديب» في المجتمعات والثقافات الأخرى، والخيوط التي تفصله عنها .
يذهب عبد الوهاب بوحديبة إلى أنّ المجتمع العربي يتميّز بجملة من السمات الثقافية التي تصوغ شخصيّة الطفل وتتحكم في نموها؛ وأنّ هذه السمات المتمثلة خاصّة في «اجتماعيّة» متعدّدة الأجزاء والمظاهر وفي ارتباط الطفل بالأمّ ثم انتزاعه منها، وفي صورة «الأب الخاصي» والمجتمع القامع، والبحث في كلّ شيء عن تأكيد الذات؛ تفسح المجال لقراءة «الأوديب» العربي من زاوية غير الزاوية «الفرويدية». فهذه السمات تنطوي على كل العناصر النفسيّة والاجتماعية، والفرديّة والجماعيّة، الشعوريّة واللاشعوريّة التي تسوّغ الحديث عن «علاقة جودريّة»عوضا عن «علاقة أوديبيّة» وإن كان السياق واحدا. وأسطورة «جودر» الواردة في «ألف ليلة وليلة»( يتوهّم أنّه من أجل الظفر بكنز، كان يعرّي أمّه؛ ثمّ يدرك أنّها لم تكن أمّه الحقيقيّة، وإنّما شبحها) تساعد أكثر على استجلاء موضوعات مثل الحبّ والموت والخوف والقلق؛ وتسمح بالحديث عن علاقة بين جسد الطفل وجسد الأم؛ خالية من كل شعور بالذنب. فإذا كان «أوديب» الغربي آثما يرزح تحت وطأة الجريمة التي ارتكبها، فإنّ «جودر» العربي لم ير الأمّ عارية إلاّ بسبب من الخيالات الفاسدة، والهلوسات البصريّة. وجسد «الأمّ» العاري الذي رآه، لم يكن إلاّ جسدا متخيّلا أو شبحا بلا روح. بل إنّ «جودر» على عكس «أوديب» يتبيّن أنّ الفعل الذي أتاه لم يكن إلاّ تحريرا لذاته ولأمّه معا.
إنّ مثل هذه التأويلات تظل ـ على طرافتها ـ محفوفة بالمحاذير. ولا أحد يملك إجابة جاهزة عن الأسئلة التي تستدعيها. فإذا أمكن إثبات كثير من أدبنا الفصيح والشعبي، وعدّه مستندا تاريخيا؛ فكيف يمكن القطع بصحّة كلّ المصادر التي دوّنت أساطير الجاهليّة مثلا في ضوء العقليّة الإسلاميّة؟ و»ألف ليلة وليلة» إنّما جُمعت في القرن الخامس عشر في الإسكندريّة؛ وكانت حكايات تُروى في الهند، ثمّ في بلاد فارس فآسيا الوسطى؛ حتّى كُتب لها ان تُدوّن بالعربيّة في القاهرة. ألا يستدعي استجماع أسطورة خالصة يمكن الاطمئنان إليها في استكشاف عقليّة الشعوب الدينيّة وسبر أغوارها البعيدة، بحوثا مستفيضة قوامها مقارنة الروايات المختلفة بعضها ببعض، ومعرفة كبيرة بهذه العقليّة وخيالها ومخيالها؟ وإذا كان هذا النوع من البحوث لا يزال يدرج في الثقافة العربية، فهل يُعتاض عنه بتسليط مفاهيم «الميتولوجيا» و»الانتروبولوجيا» و»علم النفس» الحديثة؛ على مرحلة تاريخية لا يملك عنها الباحث سوى أخبار ضئيلة مقطّعة مبعثرة؟
إنّ علم النفس مثلا يؤكّد أنّ الأمّ هي التي ترسي علاقة الإنسان بجسده، وطريقة إدراكه له، حتى ليصبح «أمّ جسده الرؤوم» على نحو ما ذكرت في مقال سابق، فيعتقد أنّه لن يحبّ جسده، إلاّ إذا أولاه العناية نفسها التي أولته الأمّ في الطفولة. أليست هذه الظاهرة انسانيّة عامّة ناجمة عن رواسب طفوليّة يحتفظ بها العقل الباطن، وقد تقترن فيها صورة جسد الأمّ بالقوة والقدرة، مثلما يمكن أن تقترن بالشهوانيّة والحاجة إلى الحماية؟
وإذا كان الأمر على ما نقول، فإنّ حماية النص من مطلق القراءة، تستلزم صرف النظر عن استخدام النظريات النفسية الجاهزة، إلاّ إذا عزّزت معنى منبثقا من النص أو فتحت ثغرة في ظلامه. ونقدّر أنّ الرمزيّة التي ينطوي عليها أيّ أدب، ليست بنية قائمة بذاتها؛ والأدبيّة لا تتحدّد بمعزل عن «اللاأدبيّة» حيث تضطرب أكثر من علاقة اجتماعيّة ـ ثقافيّة متبادلة، تضع حدّا للتقابل بين الواقعي والرمزي، بين المرئي والمتخيّل. فالبحث اذن في أصول هذا «الأوديب» ومصادره، هو بحث في أصول المجتمع العربي ومصادره الرمزيّة. وهي ليست إلاّ البنى الثقافية في مراوحتها بين مواطن الشدّ والجذب، بين الثابت المتغيّر والمتغيّر الثابت.
الثابت هو اللاشعور الجماعي العربي، أو هو «ما يتبقّى من الثقافة بعد أن يطوي النسيان كلّ شيء»، والمتغيّر أو المتحوّل هو ما ينسى من هذه الثقافة؛ لكنّه لا يمّحي تماما، فالذاكرة إنّما ترمّم نفسها أو هي تردم ثقوبها بالنسيان.
والثابت «لا زماني»، وإذا كان له زمان، فهو شبيه بزمن الحلم اللولبي حيث تتداخل المسافات وتتقوّض الحدود، ولا سببيّة تحكمه ولا مقدّمات تسنده؛ بحيث يرتبط فيه اللاحق بالسابق .
والمتغير زمانيّ أي تاريخي، لأنّه توتّر بين الجاهز والممكن، بين الموروث والطارئ الوافد. وإذا كان الثابت والمتغيّر «يتعايشان» أو يتداخلان؛ فإنّ هذا التعايش وهذا التداخل يسوقان، على وجه الضرورة إلى القول بأنّ الثابت يأخذ من المتغيّر، والمتغيّر يأخذ من الثابت.
وفي كثير ممّا أثبته عبدالوهّاب بوحديبة وأدونيس وعابد الجابري وغيرهم، إقرار بطبيعة انسانيّة ثابتة؛ «عربيّة» في السياق الذي نحن به. وينهض كثير من أدبنا قديمه وحديثه دليلا على بطلانها، فضلا عن واقعنا المتحوّل الرجراج الذي ينسخ كلّ هذا، حيث أكثر مجتمعاتنا ذكوريّة، حتّى تلك التي حازت فيها المرأة مكاسب لا يُستهان بها مثل تونس؛ فالعلاقة بين الرجل المرأة لا يزال يتجاذبها طرفان هما الحرية والاستلاب، وقد يهيمن أحدهما على الآخر، فيقوَى ويمتدّ؛ فيما ما يضعف الثاني ويتراجع.
على أنّ هذه ثنائيّة لا تسوق إلى التسليم بما يقوله أدونيس مثلا من أنّ العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع العربي «لا تزال كما كانت في الجاهليّة والحياة الإسلاميّة الأولى، لم تتغيّر لا في وجودها ولا في بنيتها ولا في غايتها».
والثقافة العربيّة هي ككلّ ثقافة مجموعة من الأنظمة الرمزيّة المتداخلة، بحيث لا يمكن أن يكون الوعي بها إلاّ وعيا فيها.
كثيرا ما يتمثّل بعضنا بالمأثور»النساء ناقصات عقل ودين»، لكن هل تتأتّى محنة الإبداع، إلاّ بمنأى عن هاتين الرقابتين: رقابة العقل ورقابة الدين؟ أليس من حقّنا أيضا ـ استئناسا بالجذر التربيعي؛ أن نجمع كلمة «امرأة» على «مَرْآت» إسنادا وتكافؤا، بدل «نساء» التي لا مفرد لها؛ على نحو ما تُجمع كلمة «رجل» على «رجال»؟
كاتب تونسي
منصف الوهايبي