هل يمكن للاستعارات أن تقتل؟

في ثمانينيات القرن العشرين ظهرت فكرة بلبلت استقرار تصورنا القديم للاستعارات: إنها زخرفٌ بياني هدفه المشابهة بين نظيرين في سمة أو سمات مشتركة. تقول هذه الفكرة التي جاء بها لايكوف وجنسن في كتاب «الاستعارات التي نحيا بها» إن الاستعارات آلية عرفانية أساسية في فهمنا للكون وأداة بها يعالج ذهننا أنشطتنا العادية، فنحن نفكر استعاريا وما وجدت الاستعارة في كلامنا إلا لأن أذهاننا استعارية.
وكتب لايكوف مقالا في مطلع التسعينيات عنوانه «الاستعارة والحرب»، درس فيه الاستعارات المستخدمة في حرب الخليج افتتحه بقوله: «الاستعارات يمكن أن تقتل». وذكر فيه أن صدام حسين وُصف في الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام استعارات جعلت منه هتلرَ جديدا، فقد قال عنه بيكر وزير الخارجية آنئذ إنه «يجلس على شريان الحياة الاقتصادية”. وقال عنه بوش الأب إنه «خنق» الاقتصاد الأمريكي وبمثل هذه العبارات دفعت السياسة استعاريا إلى حرب الخليج الأولى، فكانت الاستعارات هي القاتلة قبل أن تباشر أداة الحرب الفعلية قتلها.
الحرب أقدم نشاط بشري على وجه البسيطة لأنها كانت ولا تزال وسيلة وجود. وعلى العكس مما يوحي به كلامنا عنها، فإن الإنسان ذاهب شيئا فشيئا إلى السلام مقبلا إليه من تاريخ إنساني حربي ذي لهب. فلقد بدأت أولى حروب الإنسان مع الحيوان ليوفر قوته، وبدأ مفصل من التاريخ البشري باكتشاف الإنسان أول طريقة في تصنيع أول سلاح حربي وهو الحجارة المصقولة. بهذا السلاح الحجري المصقول صارت للإنسان مخالبُ اصطنعها من الطبيعة وصار يعرف مبكرا كيف يقتل من بعيد وكيف يطارد فريسته: إن أقوى عناصر الحماية وأعظم أسباب البقاء أن يتحول المفترس إلى فريسة. لقد أدرك الإنسان مبكرا أن هذه الحرب مع الحيوان حربُ معاش وليست حربَ وجود، فسميت قنصا وسوف تحتفظ هذه الكلمة بمعناها في عصر اصطياد البشر. لم يبحث الإنسان بعيدا عن حربه الفعلية، فلقد وجدها مع أخيه الإنسانǃ الذئب الذي كان يصطاده لبس لباس الأحياء، بل صار الإنسان للإنسان ذئبه الحقيقي، على حد عبارة قديمة لبلوتيس.
حرب الإنسان على الإنسان صيد متبادل ومتكافئ القوى؛ وكان السلاح والعتاد والعدد والعقل جميعا مرجحات لكفة على كفة، وكان على السلاح أن يغير مادته من الحجر إلى الحديد إلى النار إلى الكيميائي. وفي عصر الكيمياء صار الأقوياء يهددون الأقل قوة بـ»الكيميائي» فعدنا إلى قتل شبيه بالطوفاني، يهدد البشر جميعا لكن عبر خلطة كيميائية أكثر تعقيدا من خلطة الماء الكيميائية؛ ولم يعد الهدف من قتل الطوفان التطهير الإلهي للبشر، بل استخدم شبه الطوفان الكيميائي لإبادة البشر للبشر: كبُر الذئب فصار بحجم الأقدار في المأساة: يمكن أن يسلط على من هم تحت كلكله الموت باسم الحرب من أجل الوجود.
في شعرنا العربي القديم استعارات حربية أصولية تنخرط في إطار ما نسميه استعارة الحرب طبيعة: فيها «يفكر» الشاعر في الحرب ويدركها بوسائل يستمدها من تجربته مع الطبيعة. يمكن أن نسمي ذلك «تطبيعا» لتجربة الحرب: أن يضفي عليها قوانين الطبيعة ومبادئها وهذا أكبر مشرع إنساني لها. سنكتفي ههنا بتقديم مثالين من ذلك أولهما الطبيعة المتوحشة، وثانيهما حركة الطبيعة الرتيبة. في الاستعارة الأولى نستحضر بيت المتنبي إذ يقول:
فلا زالت عُداتك حيث كانت * فرائس أيها الأسد المهيج
إن الاستعارة في التصور العرفاني، هي إسقاط لميدان تصوري على آخر: ميدان الحرب هنا هو ميدان يسمى الهدف، وهو الطرف المستفيد من الصورة؛ وميدان الصيد هو الميدان المصدر فهو الطرف المانح للصورة، وتسمى الاستعارة ههنا باعتبار الميدانين: استعارة الحرب صيد. بهذه الاستعارة يدرك الشاعر تجربة الحرب ويبنيها بواسطة تجربة الصيد. فأعداء الممدوح فرائس والمادح أسد مفترس هائج، والموت ههنا طبيعي مبرر، فبدونه لا تحدث الحياة، بل إن سيرورتها لا تكون إلا بأن يعيش الأسد ملك الغاب على افتراس ضحاياه افتراسا تبرره قوانين الطبيعة. هذه الصورة تجعل الحرب تنعكس على ميدان أوسع هو ميدان الطبيعة التي تحكمها قوانين الأقوى. واستعارة الحرب صيد تعني أننا لا ندرك الحرب على أنها حرب، بل على أنها قنص من اتجاه واحد ونتيجتها محسومة سلفا، والمحارب واقع تحت قضاء الغاب وقدره، يعيش قليلا ثم يُفترس. هذه الصورة بدائية في إدراك الحرب: هي بلغة العرفانيين صورة أصلية أو عامة تجعل هذا الضرب استعارة عامة أو استعارة جنس لغيرها من الاستعارات، ففيها عود بالإدراك الحربي إلى أصوله الأولى: القنص.
في الاستعارة الطبيعية الثانية: حركة الطبيعة الرتيبة، يمكن أن نذكر بيت أبي تمام إذ يقول:
فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت * والشمس واجبة من ذا ولم تجب
فيه يُسقط ميدان الطبيعة ممثلا في الشمس على ميدان الحرب، أن تكون الطبيعة ميدانا واهبا للصورة في قول أبي تمام يعني أن هناك وعيا بالطبيعة آخر تصنعه الحرب. فإن تشرق الشمس وتغرب فهذا ليس سمة للكون إلا زمن السلم؛ ففي زمن الحرب يمكن أن يرى المرء نار الحرب فيبلبل وعيه من هولها فيعتقد أنها شمس: ليس في الأمر استعارة بالمعنى الكلاسيكي للعبارة، ولا هو بالمبالغة، بل في الأمر رجة في وعي من يغشى الوغى.
حضور الحرب ليس فعلا يوميا ومواجهة الموت بذهن يفكر في الموت، كما يفكر في الحياة أو أكثر، يجعل إدراك الوجود مشوشا. يمكن أن يعالج ذهن المحارب الأشياء معالجة من يرى الأشياء آخر مرة: ذلك الذي لن يرى الطبيعة بتفاصيلها البسيطة البديهية. الحرب بهذا المعنى شيء يعاش ويدرك وهو ما عبر عنه بدقة زهير بن أبي سلمى في قوله:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم * وما هو عنها بالحديث المرجم
إنه هو تعريف للحرب بالإدراك العياني، أغلب الناس يعيشون الحرب من بعيد وقلة منهم يحاربون، هؤلاء يجربون الموت وأولئك ينغمسون في الحياة بموت أولئك. الحرب تكسب الطبيعة معناها، ترى الشمس مشرقة بعد الحرب بشكل آخر سيكون لإشراقها معنى في روح من عاش بعد الحرب ناجيا أو منتصرا. ولكن رؤية الشمس لمن ستهبه الحرب للفناء سيكون لها معنى زوال النور وانتهاء الحياة، ستغرب الشمس وهي مشرقة قبل غروبها الحقيقي: الموت قتلا مشنعا. يقول أبو تمام في سياق يؤدي إلى هذه النتيجة :
فالشمس طالعة من ذا وقد أفَلتْ * والشمس واجبة من ذا ولم تَجِبِ
إن الحرب لتدخل إلى إدراكنا البسيط للأشياء البسيطة فتغيرها. رغم كل ذلك، فإن الحرب ليست وسيلة إبادة وهدم: هذا فهم شكلي لها ومتهاون: وسيلة لتعميق الوعي بالحياة. لكأننا بفضل استعارة الحرب طبيعة نغشى الحرب لنحب حياتنا البسيطة أكثر. ولكأننا ونحن في جدال يومي بين الحرب والسلام نعيش ما قاله هوغو من إن «الحرب هي حرب البشر والسلام هو حرب الأفكار»: لي أول الأمر حرب معهم، ثم لي حرب معك أيها العقل.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

هل يمكن للاستعارات أن تقتل؟

توفيق قريرة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول دينا. افروديتا الاردن:

    جريمة الاستعارات وان كان يظنها الغالبيه جريمه فهي تطبق فقط على العرب فقط ومن الحاصلين على شهادات عليا وجامعيه باللغه العربيه ..
    فالعرب تعملو الاستعارات وانا منهم من كتاب سماوي القران تحديدا ومصطلحات يستخدمها كبار الشخصيات السابقين المجيدين للغة العربيه ك صدام كونه عروبي ومن اصل عربي محار او شعبي من الشعب ,, فكلامهم اسهل لالتصاقات الاستعارات بالمصطلحات المحفوظه لدى الشعب العادي الذي لا يتباهى ولم يعمل على امتلاكه لشهادات كبرى تخص اللغه ..
    احببت المشاركه والمداهنه قبل ان يصلني معنى المداهنه الوارده بالقران والتي اعلم بانها تخصني وتخصكم ايها الغالبيه والمحتشمين والماكرين واعلم بانها تخص الجاحدين والمعتدين والاثمين الذي يختبئون خلفكم بدون علم الغالبيه الكثيره منكم ..

إشترك في قائمتنا البريدية