هيكل وصدامه مع السادات ومبارك

حجم الخط
0

لو أن الأمر هو العواطف الشخصية أو المصلحة لانحزت تلقائيا إلى الرئيس الراحل أنور السادات ضد الأستاذ محمد حسنين هيكل، ذلك أنني بعد تخرجي من قسم الصحافة في كلية الآداب في جامعة القاهرة عام 1963 التحقت في فبراير/شباط من العام التالي بالعمل في مجلة «الأهرام» الاقتصادي، وكان الدكتور بطرس غالي رئيسا لتحريرها، بالإضافة لرئاسته تحرير مجلة «السياسة الدولية»، وحدث أن طلبني الدكتور محمد أنيس أستاذ التاريخ في جامعة القاهرة، وكان عضوا في أمانة الدعوة الفكر، للعمل في مجلة «الاشتراكي» نصف الشهرية، التي تصدر عن الأمانة، وكان يرأس تحريرها سامي داود وقبلت، وكانت المكافأة الشهرية خمسة عشر جنيها، ولم أبلغ رئيس التحرير الدكتور بطرس غالي أو أستأذنه. وبعد عدة أشهر أرسلت أمانة الشؤون المالية والإدارية في الاتحاد الاشتراكي خطابا للمجلة تخبرها بأنني تقاضيت مبلغا قدره كذا، وتطلب الضرائب مني، ولم يكن نظام خصم الضرائب من المنبع متبعا وقتها، فأرسل الدكتور بطرس الخطاب إلى الدكتور محمد إبراهيم مدير عام مؤسسة الأهرام، فطلب منه فصلي واستدعاني وأخبرني آسفا بالخبر، ونصحني بانتظار عودة هيكل من جولته الآسيوية لعرض الأمر عليه، وأخبرني بأنني لا أعلم الخلاف الموجود بين الاتحاد الاشتراكي وهيكل، كما طلب مني لطفي الخولي رئيس تحرير مجلة «الطليعة» كتابة خطاب لهيكل أتأسف فيه على ما حدث مني وهو سيكلمه بعد عودته.
حدثت هذه الواقعة في شهر فبراير عام 1966 وما أضعف موقفي أنني كنت بمكافأة ولم يكن قد صدر قرار بتعييني، وتم عرض الأمر على المرحوم كمال رفعت أمين الدعوة والفكر، فأمر برفع المكافأة من خمسة عشر جنيها إلى خمسة وعشرين تعويضا، إلى أن يتم تعييني في إحدى المؤسسات الصحافية، ولم يحدث شيء رغم جهود كمال رفعت، إلى أن تولى أمانة الدعوة المرحوم ضياء الدين داود، فعرض علي تعييني في مؤسسة دار التعاون، لأنه كان المسؤول السياسي، عنها فرفضت إلى أن طلب مني سامي داود تغطية اللقاء الأسبوعي الذي كان يعقده السادات نائب رئيس الجمهورية ورئيس اللجنة الرئيسية في الاتحاد الاشتراكي المسؤولة عنه، كما كان المسؤول السياسي لمؤسسة أخبار اليوم، وكان اللقاء يعقد في القاعة الرئيسية في مبنى الاتحاد على كورنيش النيل، في الدور الأول كل أربعاء ومفتوح للجمهور ومناقشة كل شيء بحضور وزراء ومسؤولين. وكتبت له خطابا عن مشكلتي وسلمتها له وبعد أسبوع استدعاني ضياء الدين داود وسألني عن علاقة أسرتي بالسادات، فقلت له لا أعرف، فقال «أبسط يا عم فقبل اجتماع اللجنة الرئيسية سألني السادات يا ضيا أيه مشكلة فقلت له أنه مظلوم وقد عرضت عليه تعيينه في دار التعاون فرفض، فسألني هو ابن سيد ولا ابن إبراهيم فقلت له اسمه حسنين سيد فقال أبوه حبيب وعمه إبراهيم كـــروم وقال لي أنا حاخــــده عندي في الأخبار فقلت له يعني أبلغه؟ فرد تبلغه أيه يكتب القرار الآن ضمن قرارات اجتماع اللجنة، وكان القرار رقم 2 يعين السيد بقرار من السيد النائب في مؤسسة أخبار اليوم في يناير/كانون الثاني عام 1971 .
وقد سألت والدي إن كان يعرف السادات فشتمني وقال بفخر إنه كان يوزع له منشورات في المعادي وحلوان، لأنه كان متعهد صحف خط باب اللوق ـ حلوان، وقد أخفاه مدة عند صديق له في سوق المعادي صاحب عربة كارو، اسمه أحمد. وعندما عين السادات نائبا للرئيس طلب والدي من أحد معارفه أن يشتري له جلبابا جديدا وبلغة جديدة، ويذهب لمقابلة السادات وكان لا يزال في فيلا شارع الهرم وعمل بنصيحته واستقبله السادات وحل له مشاكل كثيرة.
وأنا أروي هذه الواقعة لأبين أن صاحب الفضل الوحيد عليّ في حياتي هو الرئيس السادات وأجد له الشكر والامتنان والعرفان بالجميل، وهو في قبره. لكن العواطف شيء وخلافات السياسة شيء آخر مختلف، لا تؤثر في هذا التقدير، ولذلك أراني منحازا لأستاذنا محمد حسنين هيكل، لا لأنه واحد من أعظم الصحافيين والمحللين على مستوى العالم ومفخرة لأي مصري وعربي، ولا لأنه تحول بـ»الأهرام» لتكون واحدة من أعظم المؤسسات الصحافية العالمية، ولا لموهبته وتأثيره الذي جعل حكام العالم ومسؤوليه يتسابقون على مقابلته وفتح خزائن أسرارهم له، رغم أنه فقد منصبه في «الأهرام» عندما لم يعد خالد الذكر جمال عبد الناصر موجودا، إنما الأمر بالنسبة لي هو ثبات موقفه السياسي دفاعا عند ثورة يوليو/تموز 1952 ومكتسباتها وعن إيمانه بالعروبة ووحدة الأمة العربية واستقلالها، وأن يكون له رأي وموقف يدافع عنهما ويدفع ثمنا لدفاعه هذا، وكان بإمكانه البقاء في منصبه في «الأهرام» عام 1974 لو لم يعلن اختلافه مع الرئيس، ولو كان الأمر أمر منصب لقبل قرار تعيينه مستشارا له، واستمر في معارضته له حتى سجن في سبتمبر/أيلول عام 1981 وهذه هي القيمة السياسية لهيكل، بالإضافة لقيمته الفكرية والصحافية. وقد قابلته في منزله مرتين بعد صدور كتابي «عبد الناصر بين هيكل ومصطفى أمين» ولما سألته لماذا لا يرد على الهجمات ضده فأشار بيده إلى أحد رفوف مكتبته وقال «هذه الكتب تهاجمني وأنا غير معني بقراءتها».
ولعل هيكل ونجيب محفوظ أبرز اثنين منضبطين في العمل، نجيب يغادر منزله سيرا على الأقدام إلى «الأهرام» ويعود في سيارة أحد أصدقائه، ويظل يكتب ومقابلاته قليلة وهيكل منضبط مثل الساعة ومرة سألته عن قلة إنتاج أحمد بهاء الدين من الكتب، فقال لي «بهاء ده هايص تلاقيه في كل مكان» وسألت بهاء في مكتبه في «الأهرام» عن رأيه في ما قاله عنه هيكل فقال لي: «صحيح أنا لا أستطيع أن أرد طلبا لحضور ندوة أو إلقاء محاضرة، وأنا أحب هذا الجو، ده هيكل زي الساعة». وقد شكلت المدة القصيرة التي قضاها هيكل في السجن في سبتمبر 1981 إلى أن أفرج عنه الرئيس الأسبق حسني مبارك محطة مهمة في حياة هيكل، وكل القوى السياسية في مصر، فبدون رغبة منهم أو تخطيط وجدوا أنفسهم فجأة وجها لوجه في الزنازين، فاضطروا للحديث مع بعضهم بعضا، وصحح كل منهم للآخر معلومات خاطئة عنه، وتفهموا مواقفهم، ناصريين ووفديين وإخوانا مسلمين وشيوعيين، لدرجة أن صديقنا المرحوم وعضو مجلس الشعب قباري عبد الله أخبرني بعد خروجه من السجن بقصة مضحكة، فعندما كان يصلي الفجر لاحظ أن أحد المسجونين من الجماعات يراقبه، وإذا مشى مشى خلفه فاستوقفه مرة وسأله أنت بتمشي ورايا ليه فقال له «علشان أشوف ذيلك مش أنتم الشيوعيين شياطين».
وبالنسبة لهيكل فقد أخبرني صديقنا المرحوم فؤاد سراج الدين بعد صدور كتاب «خريف الغضب» عن فكرة الكتاب فقال إنه في السجن قال لهيكل «أنا بفكر أعمل كتابا عن السادات» فرد عليه هيكل: «سيبهولي أنا». وعندما أفرج عن سراج الدين ذهبت لتهنئته في منزله في جاردن سيتي، وكان موجودا عدد كبير من الحضور وأخذ يحكي عن تجربة السجن هذه المرة، وقال: «أحنا قعدنا وتكلمنا مع بعض وهيكل ومحمد فايق ناس كويسين وشرحوا ما حدث من ثورة يوليو وفهمنا أشياء كثيرة واعترفوا بأخطاء واتفقنا على مواصلة الحوار»، وكان أحد الحاضرين في حالة ضيق شديد، وفؤاد يقول هذا الكلام وسأله: «وقدرت يا باشا تبص في وش هيكل»، فرد عليه بحسم «اسمه الأستاذ هيكل».
المهم أن هيكل أثبت في حكم مبارك أنه صاحب موقف أيضا عندما تضامن مع الصحافيين عام 1995 في رفضهم القانون رقم 93، بتغليظ العقوبات في النشر وأرسل لمجلس النقابة رسالته الشهيرة التي قال فيها عن نظام مبارك شاخ على مقعده، والمضحك في الأمر أنه تعرض لحملات عنيفة من بعض أنصار مبارك بأنه يهاجمه، لأنه أراد أن يعمل مستشارا له، لكن مبارك رفض ولا أظن أن إنسانا يصطدم برئيسين إلا إذا كان صاحب موقف يدافع عنه ويقبل دفع ثمن له.

حسنين كروم

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية