والدة الشهيد «الزئبق» : عزائي باستشهاده من أجل فلسطين ـ(فيديو)

حجم الخط
1

الناصرة ـ «القدس العربي»: في الطريق من كفركنا داخل مناطق 1948 إلى اليامون ووادي برقين مررنا من جنين شمال الضفة الغربية، توقفنا عند ميدان الشهداء الذي غيرت السلطة الفلسطينية اسمه منذ سنوات لميدان «البطيخ». من هناك حتى مكان استشهاد الفدائي «الزئبق» أحمد نصر جرار كانت لافتات المحال التجارية تذكّر بأصل الصراع، فتسمياتها توثق تسميات البلدات التي هجر منها كثير من الأهالي في هذه المنطقة، وحيفا والكرمل وصبارين» والسنديانية وغيرها من بلدات احتلتها إسرائيل عام 48 وهجرت أصحابها لمنطقة جنين وما زالوا يحرمون منها وهي على مرمى حجر منهم.
تمتد أحياء اليامون الريفية على مساحة واسعة، ويسكنها نحو عشرين ألف نسمة، ومع ذلك يبدو أن قوات الاحتلال تمكنت من رصد موقع أحمد نصر جرار بدقة وبمساعدة محلية، كما يلمح بعض ممن تحدثنا معهم أمس.
بخط أخضر كتب أحدهم على بقايا جدار «منطقة الجنرال أحمد جرار»، وعلى الغرفة التي يعتقد أن الشهيد قد اختبأ بها وهدمتها قوات الاحتلال المداهمة فجر أول من أمس الثلاثاء كتب بالخط ذاته «هنا عرين الأسد أحمد نصر جرار .. هنا ارتقت روحه الطاهرة « الى باريها.

jar 18

صفحات من المصحف الذي كان في جيبه

الشبل والأسدلم يتعد أحمد السادسة والعشرين من عمره، لكن المثل «هذا الشبل من ذاك الأسد» ينطبق عليه، فقد لاحقته دولة بأكملها طيلة شهر بعد قتله لمستوطن قرب بلدة قصرة جنوب مدينة نابلس، وتمكن من التغرير بها والإفلات من قبضة جبروتها العسكري عدة مرات رغم الطاقات الهائلة و»المعقدة» التي وظفتها للإجهاز عليه كما اعترف بعض قادتها. مسلحا ببندقية إم 16 واجه كتيبة معززة بعشرات العربات والمراكب العسكرية والطائرات بلا طيار، ورغم مباغتته وقلة الحيلة بيده اشتبك أحمد مع الجنود الذين فرضوا طوقا مطبقا على الحي الغربي من اليامون حتى استشهد كما أكد جيران المكان باعتزاز. وربما هذه البطولة جعلت موت أحمد موتا غير عادي، فقد بدا كثيرون من ذويه فخورين وبحالة معنوية عالية داخل بيت العزاء وهم يقولون إن « شهادته مكسب له ولنا ولفلسطين «.

شاهد عيان

ويؤكد الشيخ بسام أبو سيفين أبو درار (65 عاما) أنه شاهد ما حصل في المكان كونه مقيما في الطابق الثالث من البيت الملاصق للمسكن المهجور. لافتا أنه كعادته استفاق عند الرابعة والنصف فجر الثلاثاء فأشعل المدفئة ودخل الحمام للوضوء وبعد بضع دقائق سمع صوت جلبة قريبا فسارع للنافذة. وتابع «شاهدت عشرات الجنود المدججين بالبنادق يحاصرون المسكن المهجور وقد بادروا باقتلاع شجرتي زيتون كبيرتين وبعض أشجار الرمان والتين المحيطة به ربما من أجل تحسين الرؤية وكشفه أمامهم وتضييق الخناق عليه. لكنهم اكتشفوا أن المسكن محاط بجدار من الجهة الجنوبية أيضا كانت الأشجار تغطيه وعندها انسحبوا للخلف».

المخبر «حسن»

وقال أبو درار إنه «من دون سابق إنذار أطلق الجنود صاروخا نحو المسكن لكنه لم يتهدم، فكما تلاحظ الجدار إسمنتي سميك جدا، وعندها تقدمت جرافة عملاقة وأخذت تهدمه. وخرج شاب مسلح من الباب الغربي للمسكن مسرعا فاحتمى في زاوية الحاكورة ظهره لحائط إسمنتي وأخذ يطلق النار على الجنود عشرات الطلقات من بندقية رشاشة لكن النيران التي وجهت نحوه كانت من عدة اتجاهات ومن أسطح منازل مجاورة أخرى».
واضاف أبو درار أن الجنود لم يتقدموا نحو جثمان أحمد فدفعوا نحوه مركبة آلية قامت بتمزيق حقيبة كانت بحوزته، ثم تقدمت الجرافة ورفعت جثمانه ونقلته عدة أمتار حتى تم نقله على حمالة وبدا جثمانه صغيرا». ويضيف «قبل أن أودعوه على حمالة سمعت الجنود ينادون شخصا يدعى «حسن» فترجل من إحدى المراكب العسكرية وهو مقنع، ويبدو أنه تثبت من هوية الشهيد أحمد جرار وسارع للعودة الى حيث أتى».
ويستبعد أبو درار رواية سردها آخرون في المكان من أن أحمد فر من قرية سيلة الحارثية المجاورة لليامون في تلك الليلة واستشهد خلال مطاردته. ويتابع «رغم أننا لم نستشعر بوجوده داخل المسكن في الأيام الأخيرة لكنني شاهدت كيف خرج منه مسرعا وبندقيته بيديه واشتبك مع الجنود».

اعتقال شاب مرافق

ويشير الى أن الجيش اعتقل شابا مرافقا للشهيد أحمد تم اقتياده إلى أحد الجيبات العسكرية بعد توثيقه بيده للخلف وتغطية عينيه بشريط، وما لبثوا أن انسحبوا من المكان. موضحا أنه نزل من بيته نحو المسكن هو وبعض الجيران بعد انسحاب الجنود وكانت التربة مبللة بدماء أحمد فسارعوا لتغطيتها وداخل المسكن وجدوا مصحفا وملابس وحذاء تم تسليمها لذويه. كما أوضح أن المبنى المتواضع المهجور يتبع لعمارة ملاصقة له ويتبع لشقيقه الذي اضطر لمغادرة البلدة عام 2008 وأتاح لقوات الأمن الفلسطينية الإقامة فيه خمس سنوات في الماضي للمحافظة عليه من اعتداءات وهو أيضا خال اليوم. داخل المسكن المهجور المهدم جراء ضربات الجرافة تنتشر على أرضيته ملابس قديمة وسرير محطم وكتاب لتعليم الحاسوب وبقايا مصحف ممزق ظهرت منها سورة «الزمر» «وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور». وعلى أحد الرفوف بقايا طعام يشمل خبزا ما زال صالحا للتناول وكذلك زعتر وأجبان وخيار مخلل ووعاء قهوة وعلبة سجائر وغيرها من المواد التي توحي بأن هناك من أقام بالمكان بشكل طارئ».

وادي برقين

ويقع مكان استشهاد أحمد الذي نعته حركة حماس ووصفته بالقسامي، على مقربة من يعبد حيث استشهد المجاهد عز الدين القسام الذي سمي جناحها العسكري باسمه، تكريما لمن ثار على الاستعمار البريطاني والصهيونية. كما يبتعد مكان الاستشهاد عدة كيلومترات فقط عن بلدته وادي برقين غرب جنين حيث فتحت حمولته الكبيرة والعريقة بيت عزاء داخل ديوانها الذي يزدان بصور ضخمة للشهيدين أحمد نصر جرار وأحمد إسماعيل جرار، وهو الآخر استشهد بنيران الاحتلال في الثامن عشر من الشهر الماضي خلال عمليات البحث عن احمد نصر.

jarrar

وسيم ومحبوب

تمتع الشهيد أحمد جرار بشعبية واسعة بين أهله ومعارفه وشعبه، ليس فقط لكونه فدائيا مجاهدا ووسيما جدا، بل كان كذلك منذ نشأته. ويستذكر عم الشهيد وليد خالد جرار وهو صيدلاني متقاعد، أن الراحل تمتع بروح حلوة وشخصية أحبها كل من عرفه بفضل دماثة أخلاقه وهدوئه اللافت. يتوسط أحمد شقيقيه البكر صهيب وشقيقه الصغير محمد، وهو ما زال طالبا في المدرسة كشقيقتهم الوحيدة جينا. ووفق رواية العائلة تيتم أحمد من والده نصر جرار وهو في الصف الرابع ودون العاشرة من عمره عام 2002 ورغم الدعم الكبير للأسرة من الأقارب والأهل ظل أحمد يكتوي بالحنين لوالده رغم أنه عرفه لسنوات متقطعة فقط، فالوالد اعتقل عشر سنوات قبل زواجه بدءا من 1978 وما لبث أن اعتقل خمس سنوات وبعدها بقي مطاردا يقيم خارج منزله لفترات طويلة حتى استشهد في صيف 2002 تاركا أربعة أبناء بعمر الزهور.

اعتقال وتنكيل

قبل ذلك شارك جرار الأب في معركة الدفاع عن مخيم جنين، واتهمه الاحتلال بالتخطيط لعمليات تفجيرية موجعة داخل أراضي 48 ، فاشتبك مع قوات إسرائيلية خاصة أربع مرات كان يصاب فيها ويفلت من قبضتهم حتى فقد ساقه ويده قبل أن يستشهد في طوباس، بعدما تمكن من قتل قائد القوة الإسرائيلية التي حاصرته ورفض تعليماتها بتسليم نفسه، وبقي يقاوم وهو بيد واحدة حتى استشهد. ويبدو أن الشهيد أحمد لم يستلهم سيرة والده وجده الثائر محمد جرار الذي انخرط بالعمل الفدائي قبل احتلال 1967 بل عزم على الثأر لما تعرض له من قبل قوات الاحتلال كما يرجح بعض أقاربه.

ويشير قريبه مهدي جرار إلى أن قوات الاحتلال اعتقلت أحمد في العام الماضي 52 يوما تعرض خلالها للتعذيب والتنكيل. وهذا ما يؤكده خاله أيضا بسام عباس. ويتابع «في رمضان الماضي اعتقل أحمد نحو الشهرين، ولاحقا روى لي أنهم نكلوا به بالشبح والحرمان المتواصل من النوم دون سبب حيث تناوب عليه المحققون وهو بلا نوم وبعد الإفطار في المساء من أيام الاعتقال كانت تبدأ رحلته مع التعذيب. وقد كانوا يقولون له: لا نملك دليلا عليك لكننا نرغب بالانتقام منكم وننغص عليكم عيشتكم لأن والدك كان قد أثار جنوننا».

المكتوب وعنوانه

رافقنا خاله لبيت الأسرة الذي أتلفه الاحتلال في 2002 بعد استشهاد والده نصر وعلى واجهة البيت المهجور المحروق الذي تظهر فيها آثار القذائف كتب العنوان قبل سنوات. ما زالت هناك كلمات خطها أحمد بيده قبل سنوات مفادها «والله لن أسامح»، ومن فوقها كتب بخط يده أيضا الآية من سورة التوبة: « يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض..».

Jar 2
كوالده كان أحمد ملتزما بفرائضه الدينية لكنه غير متعصب ولم ينتم لتنظيم مسلح، وكان دائما يشكو من التنظيمات على اختلافاتها، ومع ذلك نعته حركة حماس. وعن ذلك يقول عمه «لا نعارض قيام أي تنظيم بنعيه فالمهم بالنسبة لنا أن المرحوم استشهد في سبيل الله ومن أجل فلسطين وسبقه ابن عمه أحمد إسماعيل الذي نعته حركة فتح رغم عدم انتمائه هو الآخر لأي تنظيم على حد علمي، وكذلك والده نصر جرار ونحن فخورون بهم كافة».
من جهتها نعته العائلة ببيان رسمي ومع ذلك يعج بيت العزاء بفلسطينيين يأتون من طرفي الخط الأخضر لتقديم العزاء، وكثيرون منهم يرفضون التسليم باستشهاده ويشككون برواية جيش الاحتلال وتأكيدات محافظ جنين، وربما يعكس ذلك شعبية الفدائي الشاب الشهيد. وهذا ما يؤكده خال الراحل، موضحا أن ابن شقيقته لم يكن منتميا لتنظيم بعينه، وكان هادئا بطباعه يمتاز بطاقته الإيجابية ويعمل دوما بالظل جنديا مجهولا. وتابع «لم أتخيل يوما أن يكون أحمد خبيرا بالسلاح وهو الهادئ المتواضع المحب لمساعدة المحتاجين». ويوضح الخال المفجوع باستشهاد ابن شقيقته المحبب اليه أن شقيقته ختام عباس جرار( أم صهيب) زوجة ووالدة الشهيد سيدة صابرة وتمتاز بقوة شخصيتها.ويتابع «حضرت إليها وأنا قلق ومهموم من لحظة اللقاء معها بعد سماع نبأ الاستشهاد فوجدتها تواسينا بدورها لا العكس». وفعلا أكدت الوالدة الثكلى صفات رددها كل من تحدثنا معهم، وقالت إن أحمد تميز بكونه حنونا متواضعا ومحبا لعمل الخير وملتزما بتعاليم الدين.

الجامعة الأمريكية

وفي سيرة التعاليم الدينية يوضح خال الشهيد أنه أنهى دراسته في الجامعة الأمريكية في الإدارة العامة قبل نحو عامين، ورفض قبل شهور عرضا بالعمل في مصرف خوفا من أن تكون له صلة بالربا فآثر العمل في محل تجاري في جنين. ويؤكد خاله أن عائلة أحمد تمتلك أراضي واسعة وميسورة الحال. ويضيف «كان أحمد يملك كل ما يتمناه شاب بجيله وكان محبا للسباحة في بركة تم بناؤها بجوار بيتهم الجديد الذي هدم الشهر الماضي».

Jar 4
وردا على سؤال قالت والدته وهي ترتدي جلبابا أسود في باحة بيت العزاء» استمد الصبر والقوة من إيماني ومن حقيقة استشهاد ابني في سبيل الله ومن أجل هذا الوطن الذي يستحق هذه التضحيات الكبيرة. الله يسهل على أحمد فقد غادر حضن أمه لحضن والده».

على بعد عشرات الأمتار من بيت العزاء القائم في أحد بيوت أقرباء الأسرة ما زالت كومة ضخمة من الركام تذكر بما فعلته قوات الاحتلال بعدما دهمت بيت الوالدة الثكلى وحولته لركام اختلطت فيه الحجارة مع أغراض البيت، فقد خرجت وأولادها بملابس النوم ولم يسمح لهم بالتقاط أي شيء حتى ألبوم صور العائلة. ولم ينج من أغراض البيت سوى ملابس أحمد ومصحف والده الذي عثر عليه في موقع استشهاده في اليامون وتم تسليمه للأم التي لم تر أحمد ولم تكلمه منذ أن داهموا بيتها وهدموه في 18 يناير/ كانون الثاني الماضي، وكان قد غادر البيت قبل نصف ساعة من مداهمته. وتابعت «لم يخبرنا أحمد بشيء ولم أشك بقيامه بأي عمل وعلمت بما ينسبونه له فقط بعد مداهمتنا».

كلاب الاحتلال

وهكذا هو الحال مع أربعة بيوت أخرى مجاورة لعائلة جرار قد حولت لركام ثبتت عليها رايات فلسطينية. ويشير خال الشهيد إلى أن بيت شقيقته قد أعد لها ولأبنائها الصغار والطابق الثاني لنجلها البكر صهيب، وتبلغ مساحته 500 متر مربع لم يبق منها حجر على حجر وفوق الركام رفرفت راية فلسطينية ولافتة تحمل صورة الأب والأبناء الثلاثة.

Jar 6
وقبالة البيت المهدم مقبرة شهداء معركة مخيم جنين القائمة على قسيمة بناء تبرع بها الراحل نصر جرار، المدفون في ضريح مجاور لها داخل أرضه محاطا بأشجار زيتون عملاقة عمرها أكبر من الاحتلال بقرون، وبجانبه حفر قبران لنجله أحمد ولابن شقيقه أحمد ما زالا مفتوحين لأن قوات الاحتلال تحتفظ بجثمانيهما. ويستدل من الحديث مع الكثيرين أن الاحتلال يتحفظ على نحو 15 شابا معظمهم من أقارب وأصدقاء أحمد جرار، وهناك شاب يدعى مبروك محمود جرار يمكث في مستشفى العفولة بعدما نهشه كلب بوليسي من كتفه وجره بشكل خطير في الشهر الماضي.

والدة الشهيد «الزئبق»: عزائي باستشهاده من أجل فلسطين
«القدس العربي» زارت اليامون وبرقين واستمعت لروايات البطولة والفداء أبّاً عن جدّ
وديع عواودة:

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابو اميرة الجزائر:

    لكي الله يا ام الشهيد و كل الشباب في فلسطين و بلاد الاسلام ابناءك، و يشهد الله سبحانه و تعالى انه ما حيل بيننا و بين الشهادة دفاعا عن فلسطن الا اؤلاك اشباه الحكام و الزعماء ، لكن قدر المولى تبارك و تعالى ان ياتي اليوم الموعود الذي نقاتل فيه الصهاينة حتى يقول الحجر و الشجر يا مسلم هذا يهودي خلفي تعالى فاقتله .

إشترك في قائمتنا البريدية