إن موضوع هذا المقال لا يقف بين حالة التفكير في الانتحار وتنفيذه كحلٍّ للاجدوى في الحياة، بقدر ما هو مقارنة بين الانتحار بسبب اللاجدوى والذهاب مع اللاجدوى حتى النهاية. ومن هنا يبدأ الفرق بين الإنسان الذي يخدع نفسه بصور يعلقها بيديه حول مدى جدوى الفعل الذي يقوم به، لكي يستمر في الحياة اللامجدية، وتحطيم هذه الصور والأفعال لكي يصبح الانتحار هو الحل.
إذن كتاب «أسطورة سيزيف» للفيلسوف ألبير كامو لا يتعامل مع الانتحار كنتيجة بل كحل ينهي حالة الطلاق بين الإنسان وحياته، أو الممثل ومشهده، وهو صلة الوصل بين الشيء المفقود في حياتنا والشيء الذي نبحث عنهُ في حياة أخرى في لحظة انطفاء الأضواء، ولا أريد تجميل فعل الانتحار هنا، وإنما إظهار الفرق بين اللاجدوى من العذاب اليومي الذي يخضع له الفرد، والتخلي بالسرعة الممكنة عن الظروف التي يمكنه إدراكها.
ولكي يقدم كامو صورة اللاجدوى اختار شخصية كيريليوف من رواية «الشياطين» للروائي دوستويفسكي، حيث لا يمكننا أن نعتبر حنين الشخصية للموت نوعا من أنواع النهاية، لأن لا جدوى كيريليوف كانت تبدأ من هذا الحنين الشخصي لما يصوره الموت من أدوات تأخذ قرارها بالنيابة عنه لترسم خطا واضح النهاية، فقرار الانتحار لم يبدأ مع تسلسل الأحداث، بل كان حاضرا من البداية مع الشخصية، فالصوت الذي تتحدث به الشخصية لا يقول إن الحياة كثيرة عليّ بنبرة خوف أو ضعف، بل بنبرة توحي بأن الحياة لا تستحق كل هذا العناء مع غياب السبب العميق للعيش، وحتى لو وجد كيريليوف هذا السبب سيبعدهُ عنهُ بكلتا يديه، الأمر الذي يدفع مجموعة نقولاي الثورية لاستغلاله لتسجل باسمه عمليات الاغتيال التي تقوم بها إلى أن ينتحر في نهاية المطاف أمام أعين كامل المجموعة.
ولكن ماذا لو اطّلع ألبير كامو على شخصية خليل في رواية «باب الشمس» للكاتب الياس خوري، فخليل في الرواية لم يكن يعتمد على أمل متجدد يظهر بصوته القوي لكي يتحدث بنبرة المستعد لأي شيء، بل كانت كل حركة أو كلمة تستمد صوتها من إدراك خليل لغياب الأمل، حتى لو تحدث عنهُ، وهكذا ظهرت اللاجدوى بصورة أقسى من أن تنتهي بالانتحار لكي تستمر اللاجدوى، وهي تنتقل من موت صغير إلى موت آخر، فشخصية خليل كانت تذهب مع اللاجدوى حتى النهاية في تفاصيل الشعور، لم تكن متفائلة بقدر ما كانت تريد أن تثبت انعدام العلاقة بين الرأي الذي يحملهُ المرء عن الحياة والفعل الذي يرتكبه لمغادرتها، وهذه هي الحقيقة التي لم ننتبه لها حول مصدر اللاجدوى ونهايتها، فدائرة خليل الأولى كانت العائلة التي تجسدت بالأب المتوفى والأم الغائبة والجدة المتنقلة في حديثها بين الأرض الأولى وربط الشبه بين الابن والأب، والدائرة الثانية كانت الحب، وشمس التي قُتلت والتي كان يعلم حدود خيانتها لهُ، والدائرة الأهم هي أبو سالم، فلنتخيل خليل الذي يعتني بأبو سالم العجوز النائم في غيبوبته أو ما يسمى بالموت السريري… يفركه بالبودرة، يحمّمه بصابون الأطفال، يحدثه ويشتري له بكل راتبه فرشة مائية كي لا تتفسخ جوانبه من الإسفنج… مع أن كل الأطباء وأجهزة الطب وكل تقارير المشافي المجاورة تخبره أنهُ ميت، وكل أهل المخيم والممرضات يسخرون منه لأن عملهُ بلا جدوى، أبو سالم أهم فدائي في المخيم ميت، كل شيء مقتنع إلا خليل، يفعل كل شيء مع أنهُ يعلم أن كل ما يقوم بهِ بلا جدوى..
فالدوائر الثلاث التي تحيط بشخصية خليل تخبرنا أنهُ ذهب مع اللاجدوى حتى النهاية، وهذا أصعب من الانتحار لأن كيريليوف كان يتعامل مع الانتحار كحل نهائي للّاجدوى التي يشعر بها، واختار هذا الحل مع نهاية الرواية، أمّا خليل فذهب مع اللاجدوى حتى النهاية وهذه خطوة أشد تعقيدا من الانتحار، لأنها لا تتعامل مع حنينها للموت كنهاية للّاجدوى، بل هي استمرارية لهُ نشعر بها ولكن بصور أخرى.
كاتب فلسطيني
المعتصم خلف
فنان .. صديقي واخي .. الوحيد الذي يدخل الى القلب بدون اذن هو كلامك الدقيق والمتناهي في الواقع