عندما يتعلق الأمر بجمهور عربي ومسلم، شرقي في العموم، تسقط المعايير الغربية وتتراجع القيم الإنسانية إلى مرتبة متأخرة.
هذا ما يمكن استخلاصه من الصفقة التي توصلت إليها صحيفة «الإندبندنت» البريطانية مع السعودية. فحوى البيان الذي أصدرته المجموعة المالكة للصحيفة يوم الجمعة، يتضمن صراحة أن «الإندبندنت» الأم ستواصل النشر باللغة الإنكليزية كما هو الحال اليوم من دون أيّ تغيير.
بمعنى أوضح، القارئ الأجنبي للصحيفة لن يلحظ أي تغيير في محتواها وفي دقتها وصرامتها المهنيتين. كانت تلكم رسالة تطمين مبكرة لملايين القراء الأوفياء للصحيفة داخل بريطانيا وفي العالم الناطق بالإنكليزية. وفعلا ليس وارداً أن يتأثر محتوى الصحيفة الأم بالصفقة مع السعودية. تماما مثلما لم يتأثر مضمون قناة «سكاي نيوز» الإنكليزية التي تبث من لندن بشذوذ «سكاي نيوز» العربية التي تبث من أبوظبي عن الكثير من الأعراف المهنية في منطقة لا مكان للقانون فيها ولا مساحة للمحاسبة والمسؤولية.
إذاً، الأسئلة ستدور حول مهنية ودقة «المواليد» الجدد الذين ستفرّخهم صفقة «الإندبندنت» مع المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق. واقع الحال أننا أمام صحيفة «باعت» علامتها للسعودية مقابل مبالغ مالية لتصدر الأخيرة مجموعة من المطبوعات الإلكترونية. المطبوعات الجديدة ستكون أدوات حرب في الصراعات الإقليمية التي تخوضها السعودية والأزمات التي تورطت فيها. هناك أكثر من دليل على استنتاج ذلك بثقة، في مقدمة ذلك، أن الطرف السعودي في هذه الصفقة هو بشكل ما مكتب ولي العهد، عرّاب التوترات الإقليمية. إضافة إلى أن اللغات التي ستنشر بها المواقع الجديدة، التركية والفارسية والعربية والأوردو (إحدى اللغات الأكثر انتشاراً في شبه القارة الهندية)، لغات مناطق تقع في دائرة الاهتمام السعودي بشكل أو بآخر. ومناطق تسكنها شعوب خسرتها السعودية، أو لا تثق في ولائها، وتسعى لاستمالتها وكسب عقولها وقلوبها من جديد.
لا علاقة للصفقة بالرغبة في الانتشار وبالبحث عن الربح التجاري. لو كان الأمر كذلك، اللغة الصينية هي الأكثر انتشاراً في العالم والشعب الصيني الأكثر تعطشا لاستهلاك المعلومة. وهناك الإسبانية والفرنسية. بل هناك الإنكليزية وهي سيّدة لغات العالم.
لا ضرر في أن تسعى السعودية (وأيّ دولة أخرى) إلى توسيع مساحات تأثيرها ونفوذها. حق مشروع، بل مرغوب. في نهاية المطاف، هذه دولة بقيادة مندفعة وفي عجلة من أمرها، فتورطت في الكثير من الأزمات، ليس مع الحكومات فقط بل خسرت شعوبا كثيرة في الجوار. وقد باتت مجبرة على بذل جهود لتخفيف حجم الضرر الذي ألحقته بنفسها. والإعلام هو سلاحها الأول في هذه الجهود. وزير الإعلام السعودي عواد صالح العواد قال في افتتاح الدورة التاسعة للمكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب في بداية شهر أيار (مايو) الماضي بالقاهرة، إن مواجهة إيران إعلاميا ضرورة قصوى. كان ذلك مجرد تذكير، لأن الحرب الإعلامية السعودية على إيران مستعرة منذ بدأت طهران تسجيل أهدافها الواحد تلو الآخر في مرمى السعودية في كلٍّ من سوريا والعراق واليمن ولبنان.
الخلل في تنازل «الإندبندنت»، وهي الرائدة في الدفاع عن المسحوقين والمظلومين في أصقاع الأرض، عن اسمها، ومن ورائه سمعتها، لصالح دولة تتصدر العالم في انتهاك الحقوق الفردية والجماعية وفي قمع حرية الرأي والتفكير. صحيح أن المال الأجنبي (جاسوس روسي سابق اشترى الصحيفة في 2010، ورجل أعمال سعودي مغمور اشترى 30٪ من رأسمالها في 2017) فشل لحد الآن في الاستحواذ على مضمون «الإندبندنت» وتوجيهه بعيداً عن أصول المهنة وأخلاقياتها. ذلك لأن الأمر يتعلق بالصحيفة الأم وبقوانين الإعلام الصارمة في بريطانيا، ناهيك عن جهات المراقبة التي تسهر على عمل الصحف والمطبوعات وفقا للقوانين والأعراف. غير أن الأمر يختلف مع الصفقة مع السعودية، لأنها اتفاقية ستقود إلى إنشاء مطبوعات تصدر ـ جغرافيا ـ بعيداً عن بريطانيا، فلا يطالها القانون، ولا تستهدف الجمهور البريطاني فلا يطالها لوم، وبلغات لا تهمّ جهات الرقابة البريطانية والنخبة اللندنية الحريصة على الأخلاق المهنية. إذا كان من ضرر سيلحق بالشركة الأم لـ«الإندبندنت» جراء هذا الزواج غير الطبيعي، فسيكون أخلاقيا ومعنويا. ولا يبدو أن ذلك سيؤرق مالكي هذه المؤسسة طالما لن تترتب عنه تداعيات قانونية ومالية.
لكي تنجح هذه الشراكة يجب أن يتنازل أحد طرفيها عن تراثه: «الإندبندنت» عن رصيدها من الموضوعية والصرامة المهنية، أو السعودية عن عدائها المزمن لكل مفاهيم الحرية وسجلها الأسود في هذا المجال. الغالب أن الأولى ستتنازل، وقد بدأت تفعل، بسبب رغبتها في الربح المادي، ومستفيدة من انتشار ثقافة مجاملة ديكتاتوريي المشرق في «عواصم الحريات» السياسية والإعلامية بأوروبا وأمريكا.
أبشِّركم بأننا سنرى المزيد من هذه الزيجات العجيبة. انتظروا!
٭ كاتب صحافي جزائري
توفيق رباحي
يبدو بالفعل وداعا «الإندبندنت»!