وداوها بالتي كانت هي الداء

لم أُصَب بأي دهشةٍ من التفجيرات الإرهابية الأخيرة، التي طالت كنيستين في مصر في كلٍ من طنطا والإسكندرية. ليس ذلك ادعاءً مني بالحكمة أو ثاقب البصيرة، بقدر ما هو متابعةٌ وقراءةٌ للأحداث وتصديقٌ للتهديدات وإدراكٌ لطبيعة المرحلة، وأكاد أزعم أن الكثيرين إما كانوا يتوقعون شيئاً وينتظرونه أو ينكرونه تمنياً من فرط الخشية والإشفاق من الفوضى.
السؤال بالنسبة لي ولكثيرين كان: متى وأين؟
لن أدخل في تفاصيل التقصير الأمني، فقد تناولها الكثيرون، وسِجِل الانكسارات والتراجعات في سيناء، كما تشير إليه الأدلة التي كان آخرها تهجير المسيحيين منها حافلٌ متواتر، ويكفي فقط التعجب المدين من أن المنظومة الأمنية، وبعد تفجيراتٍ مماثلة للكنائس، وفي ظرفٍ كالأعياد المسيحية، لم تتخذ احتياطاتٍ كافية لتأمينها، ناهيك عن علامات الاستفهام التي تثيرها سلسلة الجرائم عن جودة وكمية المعلومات الاستخبارية المتاحة لديهم.
بيد أنني أستبعد شبهة التواطؤ التي ذهب لها البعض في بلداننا المسكونة بنظريات المؤامرة، ليس لحسن الظن بأخلاقيات النظام، لا سمح الله، وإنما لأن ما حدث إذ يؤكد انتفاء سيطرة المنظومة الأمنية يهز صورته أمام العالم ويحرجه.
بقراءةٍ متأنية لتطورات السنوات التي أعقبت العملية الثورية التي دشنتها 25 يناير، خاصةً عقب الانقلاب، وعلى خلفية التقلبات السياسية التي توالت على دولة ما بعد الاستقلال، ولعل أهمها في بلدان المشرق العربي، خفوت القومية وصعود نجم الإسلام السياسي، نستطيع أن نخلص بيسرٍ إلى كون العنف صار العملة المتداولة بين الفصائل المتصارعة على السيادة والسلطة على الأرض الآن. الاستثناء الوحيد هو تلك القوى المدنية التي أعلنت عن وجودها للجماهير الأوسع التي (لم تكن تسمع بها من قبل على الأغلب) ودشنت دخولها على الساحة السياسية مع 25 يناير، وربما كانت مثار تندر أو استهتار قبل ذلك من قبل الحكوميين وبعض المعنيين بالشأن العام من الأحزاب الرسمية الهيكلية، إلا أن ذلك تغير بعد أن نجحوا في تحفيز ذلك الحراك الشعبي الأضخم في 25 يناير.
والحقيقة أن ذلك منطقي، فتلك القوى كانت تمثل الإجابة والحل للأزمات الناتجة عن عقود الاستبداد وسحق المجال العام والتدهور الاجتماعي الناتج عن التفاوتات والفقر الناجمين عن اتباع الوصفة النيوليبرالية، أو على أقل القليل (وذلك ظلمٌ لتلك لقوى في حقيقة الأمر) إنها أشارت للطريق لتخطي مستنقع تلك العقود، حين صلى المسلمون والمسيحيون جنباً إلى جنب تحت مظلة الإنسانية والمواطنة.
تعثر الحراك الثوري، أو لنقل عرقلته وغمرته ثورةٌ مضادة تقاتل باستماتة لاستعادة إحكام سيطرتها السياسية المطلقة وقبضتها الأمنية المحكمة على كل شاردٍ ووارد، يداً بيد، مع الاحتفاظ بالمزايا الاقتصادية والثروات التي راكمتها عبر تلك العقود ذاتها.
تعثر الحراك الثوري فكان من تبعات ذلك المنطقية، العودة إلى صيغة النظام- الإسلام السياسي الثنائية، التي اختزلت الحياة السياسية من قبل، وإن كانت بشكلٍ أكثر ضراوة وشراسةً من قبل، مع بعض تلك الفصائل على رأسها جماعة الإخوان المسلمين.
والشاهد أن النظام، في محاولته لإعادته إنتاج نفسه، يجدد أيضاً إنتاج كل ما لحق به من أجزاء وأساليب وممارسات ومكونات المنظومة في سني مبارك، وشكل سماته الأساسية، ويحافظ على ما بقي واقفاً منها: في الاقتصاد النيوليبرالية، بل زاد على ذلك بالتحلل من أي اعتباراتٍ، كالدعم وتحرير سعر الصرف، تلك الإجراءات التي جفلت كل الحكومات من الاقتراب منها علناً. وفي السياسة محاصرة كل أشكال التنظيم السياسي الحقيقة المستقلة، وملاحقة أعضائها بالتهم المختلقة والعسف والعنف الجسديين المهينين، وهي في مجملها أدت إلى نشوب ذلك الحراك الثوري.
من جملة ذلك، بل لعله ضلعٌ أساسي، استغلال الدين، الإسلام تحديداً، لتوفير غطاء أيديولوجي للنظام وشرعنة وجوده، ولئن كان الظرف السياسي وتطوراته أديا إلى هذا الاصطدام العنيف، بل ربما الأعنف، في تاريخ العلاقة المعقدة والمركبة بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين، الذي أعقب جولاتٍ من حرب المواقع والتعايش القلق، فإن النظام ما يزال يحتاج إلى ذلك الدعم من فصيلٍ أو فصائل دينية.
بعبارةٍ أخرى، أن النظام الذي يدرك تماماً احتياجه للإسلام في معركة بقائه وترميم نفسه، لن يعادي السلفيين والخطاب السلفي والإسلامي، ولن يقدم على أي تجديدٍ ذي بال ومغزى للخطاب الديني، ولن ينتقد جذور الفكر المتطرف. كما أنه يدرك مدى انتشاره في طبقاتٍ معينة ومدى اتساع شبكة الدعم الاجتماعي التي يوفرها، وبالتالي لن تقدم على الاصطدام به، خاصةً في ظرفٍ اقتصادي طاحن كالذي تعيشه مصر جراء القرارات الاقتصادية الأخيرة.
من ناحيةٍ أخرى، فإنه أمام الهجمات الإرهابية لا يلجأ سوى للسلاح والأسلوب الذي يعرف، فرض حالة الطوارئ، ضارباً عصفورين بحجرٍ واحد، التحلل من أي قوانين وكوابح في ملاحقة الإرهابيين، ومن ناحيةٍ أخرى إكمال معركته مع القوى المدنية، تحت مظلة محاربة الإرهاب، وبذلك يستغل الإرهاب ودماء الضحايا الأبرياء في معاركه، بالإضافة إلى التحايل إذ أحال اتفاقية تيران وصنافير إلى اللجنة التشريعية في مجلس النواب استعداداً لتمريرها.
يتضح من كل سبق أن النظام لا يحارب الإرهاب فعلياً ولا يجفف منابعه، إذ يضخ دماءً جديدة في تربة الإرهاب ويقوي بيئته الحاضنة من مصادرةٍ للحريات، وإهدارٍ للقوانين ومصادرةٍ للمجال العام، وقمع وملاحقاتٍ أمنية وإفقارٍ، وإفساحٍ للمجال يوازي الدعم للأفكار المتطرفة.
ولا يكتمل الحديث في هذا الصدد بدون الإشارة إلى ما قد يترتب على إعلان حالة الطوارئ من تأثيرٍ سلبي على الاقتصاد، كونه يطلق كماً هائلاً من الرسائل السلبية عن الحالة الأمنية للبلد، وانعدام الاستقرار بما سيؤدي على الأرجح إلى تخويف رأس المال وتنفير المستثمرين.
لم يعد النظام في مصر يحتكر أدوات العنف، بل ولم يعد قادراً وفق مؤشراتٍ عديدة على بسط سيطرته كاملةً على أجزاء من ترابه الوطني، وإذ يخوض صراعٍ بقاءٍ مع عملية الحراك الثوري، فإنه، محكوماً بطبيعة تحالفاته وتكوينه وتوازناته وذهنيته الحاكمة، يعيد إنتاج كل العوامل المفرزة للإرهاب.
للأسف، لا أجد مفراً من إعادة تكرار ما قلته سابقاً ولكن في سياقٍ مختلف: لن يكون ذلك لا آخر الإرهاب ولا العنف.
والسؤال مرةً أخرى أيضاً: متى وأين وكيف وكم عدد الضحايا؟
كاتب مصري

وداوها بالتي كانت هي الداء

د. يحيى مصطفى كامل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية