وديعة الأسد لدى إسرائيل من الأب إلى الابن

حجم الخط
4

بين ما كشفته إسرائيل من وثائق أرشيف الدولة، بعدما رفعت عنها السرية بسبب مرور خمسين عاماً، محاضر جلسات لجنة الخارجية والأمن في الكنيست خلال حرب العام 1967 أن وزير الأمن حينذاك موشي دايان كان معارضاً لفتح جبهة ثانية ضد سوريا. ولكن لم تمض إلا ساعات قليلة حتى غير رأيه بعدما وصلت صور جوية تكشف إخلاء المنطقة من القنيطرة حتى مسعدة من أي وجود عسكري سوري، فصدرت الأوامر بالهجوم.
كان ذلك في اليوم الرابع على بداية الحرب، أي في التاسع من شهر حزيران/يونيو. ولم تبادر القوات السورية ـ قبل انسحابها ـ إلى الهجوم كما كان النظام البعثي قد اتفق على ذلك مع المصريين، وحين كان هؤلاء قد بلغوا نقطة الموافقة على وقف إطلاق النار، أمر وزير الدفاع حافظ الأسد بانسحاب القوات السورية من مواقعها الأمامية بدون قتال. بل أكثر من ذلك هناك روايات تتحدث عن توريط نظام دمشق لجمال عبد الناصر بتلك الحرب المشؤومة بوقائعها ونتائجها.
كان هذا معروفاً بصورة عامة، ولم نكن بحاجة إلى الكشف عن أرشيف الدولة الإسرائيلية لمعرفته. لكن الجديد في هذا الكشف هو أن إسرائيل نفسها لم تكن متحمسة لشن حرب على الجبهة الشمالية واحتلال هضبة الجولان وتدمير القنيطرة، لولا إغراء الأسد لها بذلك. إنه فعلاً قرار محيّر اتخذه رجل واحد، من وراء ظهر الحكومة التي هو وزير الدفاع فيها. ليرتسم السؤال الكبير: لماذا؟
سيأتي الجواب بعد ثلاث سنوات، في انقلاب عسكري قام به وزير الدفاع هذا على السلطة البعثية التي دفعت بذلك ثمن هزيمة عسكرية صنعها قائد الانقلاب عن سابق وعي وتصميم. وبذلك كافأ الرجل نفسه على تسليمه الأرض السورية لإسرائيل، بأن حصل على الملكية الحصرية لسوريا كلها بموافقة الدول العظمى التي يهمها أمن إسرائيل قبل أي اعتبار آخر فيما خص سياساتها في هذه المنطقة من العالم. في كتاب باتريك سيل عن حافظ الأسد (الأسد والصراع على الشرق الأوسط) معلومة كانت السبب في منع تداوله في سوريا، على رغم تعاطف المؤلف الشديد مع نظام الأسد وقربه منه شخصياً.
تتعلق هذه المعلومة بزيارة الأسد الغامضة للعاصمة البريطانية، في أيلول/سبتمبر 1970، قبيل انقلابه العسكري بفترة قصيرة، وما يحتمل أن يكون قد قام باتصالات مع مراكز القرار في الدول الغربية، وحصوله على موافقتها على استيلائه على الحكم. الأمر الذي سنرى أنه سيتكرر مرة أخرى حين قرر توريث الحكم لابنه بشار الذي أوفده إلى باريس ولندن، في الأشهر القليلة السابقة على وفاته، مع أنه لم يكن يشغل أي منصب رسمي. وسيستقبل في قصر الإيليزيه من قبل الرئيس الفرنسي جاك شيراك بالذات استقبال رجل دولة.
بتأمل مسار الأحداث منذ تلك الحرب ـ الفضيحة، يمكننا القول إن حرب الأيام الستة – كما يسميها الإسرائيليون ـ لم تؤد فقط إلى خسارتنا هضبة الجولان، بل سوريا كلها التي استولى عليها بطل الهزيمة مكافأة له على فعلته، تماماً كما ستؤدي الحرب التالية في العام 1973 إلى بداية التطبيع العربي مع إسرائيل، بعد سنوات قليلة، وارتهان مصر النهائي لمعاهدة السلام التي أبّدَت حكم السادات ـ مبارك.
كانت هضبة الجولان، من هذا المنظور، «وديعة الأسد» لدى إسرائيل التي سيستثمرها طوال فترة حكمه المديدة في خطابه «المقاوم» ثم «الممانع» بوصفه مصدراً لشرعية يفتقدها بجميع المعاني. وفي العام 2000، قبيل وفاته بثلاثة أشهر، سيرفض حافظ عرض بيل كلينتون الذي تضمن إعادة إسرائيل كامل الجولان المحتل مقابل السلام، ليترك لوريثه بشار الأسد تلك الوديعة الثمينة ليستمر في الاستثمار فيها من بعده. ليس هذا تحليلاً مغالياً يقدمه معارض للنظام، إذا تذكرنا ردة فعل النظام على القرار الإسرائيلي الأحادي بالانسحاب من جنوب لبنان في أواخر مايو/أيار عام 2000. فقد فقدَ النظام رشده تماماً أمام قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك، فوصفه بأنه مؤامرة إسرائيلية خبيثة! نعم، هي مؤامرة خبيثة فعلاً خلطت جميع أوراق الأسد، فانتزعت منه ورقة المقاومة والممانعة، أو توهمت أنها فعلت. أقول توهمت لأن النظام وحزب الله الإيراني في لبنان سرعان ما أخرجا من جعبتهما جوكر جديدا باسم مزارع شبعا التي لا تعرف تبعيتها فيما إذا كانت سورية أم لبنانية. هذا يشبه جوكر حافظ الأسد في قمة جنيف التي جمعته، في شهر مارس/آذار 2000، مع الرئيس الأمريكي بيل كلينتون: فحين عرض عليه كلينتون استعادة الجولان، قال له الأسد إنه يريد أن يسبح في بحيرة طبريا! لن نبالغ إذا افترضنا أنه لو قررت إسرائيل الانسحاب من الجولان من طرف واحد، أي بدون أي ترتيبات مع النظام، لجن جنون هذا الأخير واعتبرها مؤامرة إسرائيلية أكثر خبثاً من انسحابها من جنوب لبنان.
لطالما تاجر النظام بما أسماه «وديعة رابين» التي من المفترض أنها نصت على انسحاب إسرائيلي كامل من الجولان المحتل مقابل سلام كامل مع سوريا. وحين آن أوان استحقاق الوديعة المفترضة هذه، رفضها الأسد مفضلاً الحفاظ على وديعته لدى إسرائيل.
القصد أن مقتل الأسديين وأشباههم، كإيران وحزب الله، هو انتزاع ورقة المقاومة والممانعة من أيديهم. ألم يصرح بشار الأسد، في فبراير/شباط 2011 في مقابلته الشهيرة مع صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية أن الشعب السوري لن يتمرد عليه كحال تونس ومصر، لأنه على خط الممانعة نفسه مع نظامه؟
لقد استحق حافظ الأسد بجدارة لقب بائع الجولان الذي وصفه به خصومه، وتفوق عليه ابنه بشار حين دمر سوريا، وقتل نصف مليون من السوريين، وشرد نصف السكان، وباعها للإيرانيين والروس ولكل الدول الطامعة.

٭ كاتب سوري

وديعة الأسد لدى إسرائيل من الأب إلى الابن

بكر صدقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    تتكشف كل يوم خيانات آل الأسد من الجد علي سليمان الذي طالب ليون بلوم باقامة دولة علوية الى الأب حافظ الذي باع الجولان ثم إلى الابن البار بإرث جده وابيه الذي باع سورية للروس والمجوس بعد ان دمرها

  2. يقول د.راشد المانيا:

    ماقلته أخي أيها الكاتب المحترم هو عين الحقيقة
    فهذه العائلة ما وجدت إلا لهدف واحد هو حماية حدود إسرائيل وثبيت حدود إسرائيل هي عائلة خائنة بكل المقاييس من الجد للأبن للولد كل له بصمته الخاصة في خيانة سوريا.

  3. يقول Passer-by:

    لا أستطيع أن ألوم خائناً على خيانته لأن هذا طبعه ولكن اللوم كل اللوم على ساسة وعسكريو السنة الأغبياء الذين تركوا العلويين يتغلغلون في مفاصل الدولة إلى أن ارتقوا الحكم تحت شعارات زائفة كالوطنية والإشتراكية والوحدة العربية وما إلى ذلك من تلك الخزعبلات وبعد أن وقع الفأس في الرأس هذه هي النتيجة المنطقية تهجير السنة وسبي نسائهم وقتل أبنائهم سرقة أرضهم وبيوتهم وهم أكثر من 85% على يد 8% فقط من العلويين والمصيبة أنه لا يزال هناك من السنة الأغبياء من يثق بالعلويين ويعينهم على (إخوانهم السنة) والنتيجة يستحقون ما يجري لهم، اللهم لا شماتة ولكن هذا هو المنطق: الخونة هذا مصيرهم وللأسف حتى الآن لم يستوعب السنة الدرس فما زال السني يفتن و يشي يأخيه السني للنظام العلوي الطائفي وأغلب ضحايا النظام كان بسبب المخبرين السنة فكان الرجل يشي بأخيه بل وأمه وأبيه. محال أن يشي العلوي بالعلوي. هل فهتم الآن مدى مصيبتنا؟؟ دبت التفرقة بيننا فوقع علينا قوله تعالى:‏‏وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.
    ألا ترون السوريين موزعون في أربعة أصقاع الأرض حتى في القطب الشمال (حرفياً لا مجازياً).‏

  4. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    أخي بكر صدقي والأخوة أصحاب التعليقات. تختلف وتحتار العقول في تحليل الوقائع والأحداث التاريخية ونختلف أو نتفق هنا وههناك في كثير من النقاط. لكن أصبح من الثابت أن بيت الأسد منذ وصول حافظ للأسد إلى مراكز رفيعة في السلطة كان همهم الأساسي هو الحفاظ على السلطة! وكان من الواضح لهم أنهم يحتاجون إلى رعاية غربية وإسرائيلية. لكن أنا شخصياً وبغض النظر عن هذه التحليلات كنت خدمت برتبة ملازم (ضابط مجند, وهي أصغر رتبة ضابط) في الجيش السوري بين عامي ١٩٤٨ إلى ١٩٨٦. صدقاً ولا أعرف إذا كنتم ستصدقوني, كان انطباعي واضحاً عندما أنهيت خدمتي العسكرية بأن النظام برئاسة حافظ الاسد (بعد أن نجح في ضرب الأخوان المسلمين كما هو معروف) لا يفكر ولا يوجد مايدل على أن هذا النظام يهتم بالصراع أو بمحاربة إسرائيل أو بتحرير الجولان وبفلسطين أصلاً كما كنا نسمع كل يوم في الخطابات والإذاعات. لقد كان واضحاً أن الاهتمام الأساسي للنظام هو الحفاظ على السلطة وتعزيزها والاستفادة من الاقتصاد ونهب ثروات سوريا والعبث والاستغلال البشع للسلطة, من قبل بيت الأسد وأعوانهم والزمرة الحاكمة معهم ومعظمهم من ضباط الجيش الكبار طبعاَ. لقد كان هذا هو انطباعي وقد قلته لكثيراَ من أصدقائي في ذلك الوقت ولم تكن هذه المشاعر أو الأفكار بعيدة عن ذهن الكثيرين, لكن كنا جميعا في الحقيقة نترقب الأمور دون القدرة على إيجاد منفذ للتعبير أو للتغيير وربما الكثيرين كانوا يؤمنون بأن التغيير سيأتي لا محاله ولكن ليس بشكل مأساوي وكانت النتيجة للأسف الكارثة التي نعيشها اليوم.

إشترك في قائمتنا البريدية