الورقة الأولى: في الشرفة المطلّة على حديقة المنزل التي طالما حرص على الاعتناء بها، وكأنّه كان على علمٍ مُسبق بأنّها ستبقى المصدر الوحيد الذي سيحفظ له عهد الوفاء والاعتناء الذي منحه لزهورها وأشجارها، جلس مُمسكاً بشدّة بأوراقٍ اعتادت التنقّل بين يديه متى أراد النظر فيها.
فهذه الورقة شهدت أولى محاولات أحمد في تعلّم الكتابة، يذكُر حينها أنّه عاد مسرعاً من المدرسة مُخرجاً الورقة من الحقيبة وراكضاً باتجاه والده ليريه ما كتبه، وتلك الورقة اعتاد أن يتركها صباح كل عيد بجانب سرير والده ليهنّئه بقدوم العيد، فهي الورقة الرابحة التي تمنحه الشعور بالاطمئنان نحو تحصيله «للعيدية» التي ينتظرها، أمّا هذه الورقة فقد احتفظت بتاريخ ويوم ولادة فرحته الأولى في الحياة «أحمد».
أحمد الذي جاءه ليلاً يُخبره مدى ما يعانيه هو وأطفاله في البلاد التي أصبحت لا تحمل بين طياتها سوى الحروب والقتل وعدم الأمان، وبأنّها لم تعد تلك الأرض التي تمنّى أن يقطنها أطفاله ويمارسون حياتهم الطبيعية كسائر الأطفال فيها،أ»اعذرني يا أبي لم يعد أمامي سوى خيار السفر علّني أتمكن من توفير ليلاً يسوده الأمان لأطفالي!» كانت الجملة الأخيرة التي قالها مودّعاً والده على باب المنزل.
الورقة الثانية
على الحائط في غرفته الصغيرة، وأمام سريره اختار أن يُعلّق تلك الورقة التي باتت دليلاً شاهداً على مدى السنين التي مرّت عليه في ذلك المكان، وبين الزيارات التي أصبحت لا تعد ولا تحصى اختارها مكاناً يُحصي فيه عدد الأيام التي تفصل ما بين الزيارة السابقة التي انقضت والزيارة التي ستليها.
يدخل مأمور السجن وينظُر إلى تلك الورقة مبتسماً باستخفاف مخاطباً «إمسك هاي جبتلك الورقة البيضا اللي طلبتها»، مستطرداً «والله يا خالد بدي أجيبلك مجموعة ورق وتريحني من هالقصة»، ناظراً إلى الورقة المعلّقة على الحائط قائلاً «آه منيح إجت بوقتها». باتجاه الورقة المعلّقة على الحائط اتجه خالد نازعاً لها برفق ليضمها إلى سائر الأيام الأخرى التي أحصاها بين أرواقه، واضعاً مكانها الورقة البيضاء الجديدة.
ما لم يُدركه مأمور السجن أنّ في انتظار الورق يسكن الأمل الوحيد الذي بات يترقّبه خالد، ولا يريد أن ينقضي وهجه المُنتظر!
الورقة الثالثة
اعتادت أميرة عند الاستيقاظ صباحاً وقبل ذهابها إلى العمل أن تضع قصاصات الورق على المكتب الصغير بجانب سرير ابنتها. فعبير التي يغلبها النوم صباحاً وتتوجّه إلى عملها متأخرة في معظم الأحيان، اعتادت أن تنظر إلى ذلك الدرج فور استيقاظها مُستعينةً بقصاصات الورق لتسعفها بما قد ينزلق من ذاكرتها، «عبير إشربي الدوا»، «عبير لا تنسي الجاكيت برا برد»، «عبير الورقة التي سهرت لتخلصيها وتسليمها لمسؤول العمل لا تنسيها». في أحد الصباحات استيقظت عبير وعيناها تتجه فوراً إلى مكتبها الصغير باحثة عمّا كانت تجده دوماً، مُتيقّنة في كل مرّة يخذلها فيها فراغ المكان أنّ حتى قصاصات الورق تُغادر الحياة كما يغادرها أصحابها.
للأوراق ذاكرة استطاعت أن تتمسّك بما دونتّه الأقلام، متجاوزةً الاحتفاظ بالحدث ذاته إلى التمسّك بنبض الحدث المتجدّد الذي لا يفارقها أبداً، ومتى وقفت أمام أوراق الحياة علِمت كيف لورقةِ واحدة القدرة على العودة بك مجدّداً لما مضى، فهناك تسكن الذكريات بحروفٍ أبت أن يُفسد الزمن ما دوّنه أبطالها.
٭ الاردن
تمارا محمد
اهنئك على الابداع في سرد الافكار و طريقه الربط بينها في النهاية … اتمنى لك مزيدا من التقدم … و ارجو ان يتم نشر المزيد من القصص لهذه الكاتبة المتميزة
قصة رائعة تخلو من الشوائب النحوية ، قمة في الإبداع و ذات رهف حسّي عالي
قصة مميزة واعجبني طريقة طرح الفكرة في قالب الورقة الثالثة جداً
قصة اكثر من رائعة, قمة في الإبداع والتشويق .. اتمنى لكِ دوم التقدم والنجاح على طريق الابداع
اشكرك جدا على هذه القصة الرائعة التي حملتني لعالم أخر مليئ بالذكريات التي لا تنسا حتى لو لم تكتب على ورقة ولكنها طبعت بالذاكرة – لا تحرمينا من قصصك الرائعه
جميلة هي القصص الصغيرة التي تحمل في طياتها معاني خفية ذات تأثير كبيرة …. أبدعتي وإلى الأمام
مبدعه تمارا دائما كل امنياتي لك بالتوفيق
وااااو تمارا رائعة و متميزة جدا ..خاصة الورقة الثالثة جذبتني جدا
كالعادة متألقة صديقتي تمارا قصة رائعة واتمنى لكِ دوام التقدم والنجاح …
قصه اكثر من رائعه .. تفاصيلها جميله واستمري دوماً بامتاعنا بمثل هذه الكتابات