■ لوهلةٍ توقفت أمام هذا العنوان متردداً.. أجده مزدحماً بشكلٍ ملحوظ.. لكنني أظن أنه يعكس ما في واقعنا الحاضر من ازدحام أحداثٍ تتعاقب وتتزامن بوتيرةٍ مذهلة، تستنزف بسرعةٍ فائقة طاقة أي محللٍ جاد على التحليل، خاصةً لو أنه تعاطى مع المستجداتٍ من منطلق الرغبة في الفهم، لا مجرد إثبات أفكارٍ وإعادة تقرير معطياتٍ مسبقةٍ لديه، نمت ونضجت وترسخت في تكوينه العقلي والنفسي متحدرةً من أزمنةٍ وملابساتٍ وظروفٍ عفى عليها الزمن.
أمام هذا الواقع الجديد الآخذ في التشكل لا أجد متسعاً من الوقت لاستجلاء حدثٍ حتى يباغتني آخر، وما أن أمسك بالقلم لأعلق منظماً أفكاري، أو أفتح فمي حتي يصير ما كنت سأتناوله خبراً قديماً، ناشفاً ثقيل الظل كالخبز البائت!
نعم هو عالمٌ جديد ذو واقعٍ آخذٍ في التشكل، يتغير فيه الثقل النسبي وموازين القوى التقليدية التي سادت النصف الثاني من القرن العشرين، وبالتحديد آخر عقدٍ فيه، وفي بدايات الألفية الجديدة، برز عمالقةٌ في الشرق، كالصين والهند وروسيا العائدة في غضب، يتبرمون بهيمنة أمريكا التي باتوا يجدونها غير مبررة، ناهيك عن كونها قادت لكوارث وخللٍ جيوسياسيٍ عميق، ويطالبون بما يتفق مع أحجامهم وقوتهم الاقتصادية التي لم تعد موضع جدالٍ أو استهانة، والأمر نفسه يحدث في الجنوب، كالبرازيل على سبيل المثال، في «فناء أمريكا الخلفي»، وكما هو معتاد، فإن تلك الحراكات على مستوى القاع تجد صداها وانعكاسها في منطقتنا المباركة في المقام الأول، حيث مصادر الطاقة الأهم، وحيث نسب المحاصصة تعكس مقدار ما لكل دولةٍ أو كيانٍ من قوةٍ ونفوذ. اللافت والمحزن في الموضوع أننا نحن العرب، على الرغم من كل المحاولات، من مشاريع وحدوية إلى اشتراكية مدّعاة، إلى تعلقٍ مذلٍ بذيل ثوب أمريكا، إلى محاولاتٍ شعبيةٍ حقيقية في الثلاث سنوات الماضية، لم نتخط خانة المفعول به إلى الآن.
غير أنه في زحام الاخبار، فإن الخبر الذي أدهشني بقدر ما ملأ نفسي حسرةً، هو ذلك القمر الصناعي أو المسبار الذي نجحت الهند في إطلاقه حول المريخ ضمن برنامجها الفضائي.. الهند بلد الفقر المدقع والتفاوتات الفاحشة، لم أملك حين قرأت ذلك الخبر سوى أن أسترجع في ذهني تلك الصورة الراسخة في وعيي عن الهند، التي تشكلت نتيجة التجارب والانطباعات والحكايا التي تصلني.
نشأت في الخليج حيث عهدت الهندي فقيراً مغلوباً على أمره رقيق الحال يقوم بالأعمال اليدوية الوضيعة، وما زلت أذكر ما حكاه لي والدي، رحمه الله، عن زيارته للهند في الستينيات وما رآه، الهوة التي تفصل بين الثراء الأسطوري الفاحش والفقر الذي لا مثيل له ولا يمكن تصوره..عن التنبيه المنقوش فوق الصنبور في أحد الفنادق الراقية الذي يحذر النزيل من الشرب من الماء لاحتمال تلوثه بالكوليرا.. الدكتور فاروق الباز عالم الجيولوجيا الذي سمعته يعلق منذ بضع سنوات على إصرار الهند على أن يكون لها برنامج فضاء في الستينيات حين لم يتوفر لديها شيء سوى المجاعات… المجاعات!
انظر الآن إلى الهند التي كنا نسخر منها ونتعامل معها بتعالٍ وعنجهية غير مبررة، لم تصبح دولةً نووية وقوة اقتصادية بازغة وصاحبة مشروع فضاء ناجح فحسب، وإنما قبل هذا كله وأهم منه ووراءه: لقد نجح الهنود في ما لم ننجح نحن فيه: تقبل الاختلاف والتنوع وإيجاد صيغة للعيش المشترك، في ظل ديمقراطية هي الأكبر في العالم بتنوع أعراقٍ ولغاتٍ ودياناتٍ لا مثيل له في العالم. لست من السذاجة والجهل بمكانٍ لكي أغفل المشاكل الطاحنة والمزمنة في الهند في صورة التفاوتات الطبقية والفساد المذهل الذي ينخر جسد الدولة والبيروقراطية، كما أدرك ذلك الجنوح نحو اليمين بنعرته الهندوسية الإقصائية، وما يتمخض عنه ذلك من مشاكل دورية في صورة انفجار الاحتقانات بين الطوائف والأعراق من آنٍ لآخر، إلا أن كل ذلك يتقزم أمام ضحايا الحروب الطائفية و»القومية العربية» في بلداننا، ناهيك عن بطش الأنظمة المجرمة التي قتلت من شعوبها أكثر مما فعل المستعمر.
الهند عائدة بقوة، تطوي المسافات وتعوض ما فات.. تتطور في وثباتٍ حتى صارت أحد أهم مراكز الأبحاث التكنولوجية، خاصةً في مجال الحاسوب، بالإضافة إلى التفوق في شتى العلوم، وخريجوها يفيضون فيغمرون العالم، وتجدهم يعودون فيفيدون بلدهم. أما نحن فأنظمتنا تشردنا، إما هرباً من قمعٍ (ثلث الشعب السوري مهجر…الثلث فقط، «يا بلاش»!) أو بحثاً عن قدرٍ ولو ضئيل من الحياة الكريمة، وفي حين نجحت الهند في اختبار التعايش فشلنا نحن بامتياز وقضينا عقوداً نذبح بعضنا بعضا على خلافاتٍ تعود لآلاف السنين، ولإثبات تفوق قوميةٍ ومذهب على الآخرين، ومن ثم نلقي باللائمة على الغرب والاستعمار الذي يتآمر علينا ويفتتنا. أجل الاستعمار حقير ومتآمر، لكنه يستثمر في ضعفنا وتشرذمنا وفشلنا… النقص والعطب فينا بالأساس، والمحصلة أن الهند عادت للتاريخ ونحن نجاهد لنظل خارجه، هي وصلت للمريخ ونحن ما شاء الله صنعنا جهاز الكفتة!
من سوء حظ أنظمتنا أن ذلك يتزامن مع التحركات الدولية لمواجهة خطر الإرهاب متمثلاً في «داعش» بالأساس، وزيارة الرئيس السيسي وأبي مازن ضمن آخرين للأمم المتحدة وإلقائهم كلمات، وإذا بنا أمام مشهدٍ عبثيٍ تماماً يختزل الوضع الغرائبي الذي نعيشه.. لن أزعم أنني افهم ظاهرة «داعش» تماماً… يجوز لدي تصورات وهواجس وشكوك، لكن الصورة معقدة والأطراف المتصارعة في تلك المنطقة غيرت تربيطاتها وولاءاتها، الأكيد أن ذلك التنظيم خرج عن السيطرة والحدود أو الخطة المرسومة له، ومن ثم قررت أمريكا ضربه، وكما هي العادة فسوف نجر كسقط المتاع في حربٍ جديدة وستدفع دول الخليج الفاتورة، في معركةٍ يرى كل شخصٍ فيها ما يحب أن يرى… وليس من شكٍ ان ذلك رفع قيمة مصر بصفتها أولاً الكيان الأكبر والبلد العربي الأثقل في المنطقة، وثانياً لأنها ما تزال متماسكة، على الأقل حتى الآن، وهو الأمر الذي يدركه السيسي ويحاول استغلاله لتحسين وضعه، من قبيل الاعتراف به والحصول على دعمٍ وصفقات اسلحة، وليس في ذلك بالجديد أو ما يدهش.. المدهش حقيقةً هو تعاطي إعلام الريادة مع الزيارة، لقد ألقى الرئيس السيسي كلمةً عادية، أجزم أنها لن تصنع التاريخ وربما لن يذكرها أحد الحاضرين الأسبوع المقبل، إلا أن الإعلام تعامل مع مجمل الزيارة كأنها فتحٌ مبين، وكأن الرجل غزى الأمريكان وقهرهم في عقر دارهم… ذلك الإصرار المحموم نفسه الذي لا يكل ولا يمل في محاولة خلق زعامة للرجل وإسقاطها عليه، بما في ذلك بناء صروح انتصاراتٍ ومنجزاتٍ عملاقة في الخيال.. وقطاعاتٌ كثيرة في الجمهور تعطلت ملكة النقد لديها (إن وجدت)، فهي تريد أن تصدق، إما سأماً من توترات وقلاقل وضياع الثلاث سنوات السابقة وإما شوقاً للتحقق والفرح.
الحق أقول إن هذا هو ما يملؤني رعباً من المستقبل، ذلك الإصرار العنيد على تجاهل الواقع ومجرد رؤية ما يروقنا فيه وتفسير الباقي وفق ما يحلو لخيالنا أن يكون، إذ يحق لي، لنا، في هذه الحالة أن نتوقع، بل ونتنبأ بأننا لن نلتفت لمؤشرات الفشل ونذر الأزمات والكوارث.
بت أخشى الغد، فهناك حربٌ أو حروبٌ على الأبواب والمزيد من الأزمات بعد أن فشلت تلك الموجة من الثورات في إسقاط الانظمة وإنجاز تغييرٍ ثوري حقيقي، ولعل ذلك هو السبب في كون بعض النماذج من التراجيديا اليونانية تتسلط على تفكيري هذه الايام، حيث تتضافر العوامل والملابسات فيسير البطل إلى قدرٍ محتومٍ بدون المقدرة على تغيير المسار المرسوم.. أليس في واقعنا الكثير من ذلك؟! في بلداننا الآن تتسيد سرديةٌ موازية، مختلقةٌ من مادة الأحلام، ولا تمت للواقع بكثير صلة، يعضدها إصرارٌ عنيد على تجاهل الواقع وتعطيل كل نقدٍ ومهاجمته.. أليست تلك الوصفة المثالية لكارثةٍ محققة؟ سأترك للمستقبل الإجابة على ذلك..غاية ما هنالك أنني ادعو الله ألا نكون بصدد كتابة فصول التراجيديا العربية.
٭ كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل
قمة يا دكتور يحي بالتحليل والتوصيف
فعلا أمر عجيب هذه الهند
فرغم اختلاف لغاتها وقومياتها وأديانها المتعددة الا أنها بقيت صامده
كنا نستهزؤ قديما بكلمة أنا لست هنديا
لكني متأكد أن الهندي يقول الآن أنا لست عربيا
واه خزياه واه خجلاه واه أسفاه
ولا حول ولا قوة الا بالله
شكرًا لحضرتك يا سيد يحيا على هذا المقال الراءع ،لقد أشفيت صدورنا في القراءة ،ولقد عبرت أفضل تعبير عن الحالة العربية المزرية،نبحث كل يوم عن اخبار العروبة لنجد شيءآخر يفرحنا وخاصة في هذه الأعياد ،ولكن ما نجده هو الحزن والياس تماما،وهذا سببه الاول والأخير هو انظمتنا المهترءه ،خلفت لنا الجهل والجوع والفقر والرعب،اكثر من أربعين عاما وانا في دول الغرب اتابع اخبار انظمتنا لم اجد ما يسرنا منهم ولو يوما واحدا،
انه لمقال متكامل
شكرا جزىلا