احتياجات الإنسان لا تنحصر في الأكل والشرب وتلبية الغرائز المختلفة فقط، فهذه نشترك فيها مع الحيوان. احتياجاتنا ستظل منقوصة إذا لم تكتمل بتلبية كل ماهو متعلق بالوجدان والمشاعر والوعي وحرية الضمير، وبأن كل الناس يرغبون في التصرف كأسياد، لهم موقف حريص حيال كل ما يجري حولهم. ولذلك، فالنظام الذي يحتكر السلطة والثروة، ويتجاهل متطلبات المواطن المادية والروحية، سيواجه دائما بمقاومة لا تنبني على رفض الاستبداد وحسب، وإنما ترتكز أيضا على تطلعات المقاومين إلى النموذج الأفضل.
والوعي بضرورة التغيير ليس وليد الصدفة، وإنما هو نتاج عملية تطور تراكمي متواصل، يتولد من خلال المعاناة والشعور بالغبن وضرورة إزالته، كما يتغذى باستلهام دروس المقاومة والاستنهاض، سواء من حقل التاريخ الوطني للبلد المعين، أو حقل تاريخ وتجارب الشعوب الأخرى. وهو يأخذ شكله المنظم والمرتب في اتجاه صيرورته في فعل ملموس، من خلال جهود النشطاء السياسيين، ونشطاء المجتمع المدني. وهي جهود ربما لا ترى نتائجها المباشرة الملموسة إلا لحظة الانفجار، عندما يتخذ خط سير المقاومة مسارين متقاطعين يؤثر كل منهما على الآخر: مسار في اتجاه دحر النظام المستبد القائم، ومسار في اتجاه نمو وتطور النظام البديل بمشاركة كل القوى التي أطاحت بالنظام القديم. لذلك، لم تكن صدفة أن توحدت مختلف الرؤى والمنطلقات الأيديولوجية والفكرية والدينية للملايين الثائرة في ميدان التحرير في القاهرة في يناير/كانون الثاني 2011، في شعارين أساسيين، هما: شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، والذي سرعان ما انتشر بنفس قوة إندفاع رياح التغيير ليصبح ملكية عامة لكل شعوب المنطقة. والشعار الثاني هو: «الدين لله والوطن للجميع»، الذي وحد المصريين، مسيحيين ومسلمين وعلمانيين، ورضي به دعاة الإسلام السياسي، ولو إلى حين. ومن الواضح أن شعارات ومفاهيم التغيير، لا تترسخ فقط بسبب كونها تظل حاضرة بمرور الزمن، وإنما كنتيجة مباشرة لحراك النشطاء والمقاومين، كل في مجاله.
فمفهوم «الدين لله والوطن للجميع» مثلا، لم يصبح جزءا من المكون الثقافي والفكري للحركة المطالبة بتسييد مفاهيم المجتمع المدني الديمقراطي، إلا كنتاج لحراك متصل يمكنك أن تتابع جذوره منذ عصر التنوير وما تلاه من مقاومات لاحقة رافضة لسيطرة الكهنوت ورجال الدين. ولن يغير من هذه الحقيقة إن اتفقت مع القائلين بأن أول من هتف بالشعار هو القائد سعد زغلول داعيا لوحدة الشعب المصري في ثورة 1919، أو اختلفت معهم لتتفق مع من يقول بأن أول من هتف بالشعار في الوطن العربي هو القس بطرس البستاني (1819م/ 1883م)، الذي اتخذ المقولة شعارًا لمجلتة «الجنان». وهو كان ينادي بالفصل بين الدين والدولة، كما كان له دور كبير في الدفاع عن تعليم المرأة، وفي نهضة اللغة والثقافة العربية، وفي ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية. وهو أول من ألف موسوعة عربية «دائرة المعارف»، كما أعد أول قاموس عصري في اللغة العربية «معجم المحيط».
من زاوية أخرى، فإن النقلة الهائلة في عالم تكنولوجيا الاتصالات، أشاعت وعولمت المعلومة، قافزة بالوعي البشري قفزات هائلة، لدرجة أن الأميين اليوم قادرون على امتلاك قدر محترم من الثقافة الشفاهية، سماعا ورؤية. وفي هذا السياق، أعتقد أن هذه القفزة في الوعي ساهمت في إعلان ميلاد ثورات أبناء المناطق المهمشة ضد المركز في السودان، والتي أخذت اشكالا متعددة، تبعا للاختلاف الثقافي والتنوع الإثني، ووفقا لتفاوت مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي وكل تفاصيل الجغرافيا السياسية، وكذلك حسب سطوة وقبضة السلطة المركزية على مناطق الهامش هذه، وأخيرا حسب القدرات والإمكانات الذاتية لهؤلاء الثوار. وما كل الاتفاقات التي وقعها نظام الإنقاذ في السودان مع حركات الهامش، إلا دليل على طبيعة هذه الثورات ونجاحها بدرجة أو أخرى.
والمنحى الإثني والقومي للثورة في السودان، لم يأت من فراغ، فهو رد فعل طبيعي لهيمنة الثقافة العربية الإسلامية في المركز منذ الاستقلال، والتي اكتسبت بين يدي سلطة الإنقاذ طابعا استعلائيا تجاه الثقافات والقوميات الأخرى، مما دفع الأخيرة للرفض والمقاومة والثورة.
ومعروف أن استبداد وطغيان الإنقاذ المترجم إلى عنف، أدى إلى تغيير جغرافيا البلاد بانفصال الجنوب، وقد يؤدي إلى المزيد من التغيرات الجغرافية في البلاد لاحقا.
البعض هنا يحث الشباب السوداني لرمي الأحزاب السياسية وراء ظهره باعتبارها أصبحت موضة قديمة! لكن، الأحزاب السياسية نشأت كضرورة موضوعية لا يمكن نفيها بسهولة. صحيح يمكن أن يتغير شكلها أو خطابها، لكن مشروعية بقائها تظل موضوعية مادام هناك صراع اجتماعي. بل إن المنظمات المدنية ذات الطابع المطلبي أو الإصلاحي البحت، تقترب من التنظيم الحزبي كلما اقترب نشاطها من أو تقاطع مع قضايا السياسة. فمن دروس التاريخ القريب رأينا كيف أن حركة الخضر في أوروبا اصطدمت بالسياسة في بلدانها ووجدت نفسها في خضم الفعل السياسي، فخاضت الانتخابات تحت لافتة حزب الخضر، بل وأصبحت جزءا من الائتلافات الحاكمة في أكثر من بلد. وحركة احتجاجات عمال حوض السفن في مدينة غدانسك البولندية التي بدأت كحركة احتجاج نقابي ضد النقابات الرسمية في بولندا، ودخلت في إضراب عام حتى انتصرت في أغسطس/آب 1980 لتكون نقابات التضامن المستقلة، اقتربت أكثر من السياسة لتلعب دورا رئيسيا في التغيير الذي اجتاح بولندا في العام 1989، وأطاح بالنظام الذي كان يحكم باسم الطبقة العاملة!، ثم خاضت الانتخابات تحت اسم نقابات التضامن، لتدخل البرلمان وليصبح مؤسسها رئيسا للجمهورية.
أما حركة الشباب، الثائرة أو الكامنة، في بلدان عربية عدة، فتطرح بشدة قضايا إصلاح السياسة والمجتمع فتتبلور عندها شعارات الحرية والكرامة والتغيير، مجددة بثورية خلاقة وعي الأحزاب القائمة، وفي الوقت نفسه مكتسبة وعي الحكمة من هذه الأحزاب، دافعة إما إلى تجدد هذه الأحزاب أو تخلق أحزابا جديدة.
٭ كاتب سوداني
د. الشفيع خضر سعيد
“احتياجات الإنسان لا تنحصر في الأكل والشرب وتلبية الغرائز المختلفة فقط، فهذه نشترك فيها مع الحيوان. احتياجاتنا ستظل منقوصة إذا لم تكتمل بتلبية كل ماهو متعلق بالوجدان والمشاعر”.. وكيف عرفت أستاذ أنّ الحيوان ليس له مشاعر؟ الحيوان لغز..