■ علينا أن نتعامل مع مصطلح «الهجرة غير الشرعية» بحذر وأن نكف عن ترديده بلا وعي مع الأوروبيين الذين جعلوا من هذا الموضوع، ومنذ سنوات سبقت بكثير أزمات المنطقة الحالية، أولوية صاغوا من أجلها إتفاقيات ومعاهدات وعقدوا في سبيل تطويقها مئات الاجتماعات.
نعم، إن ذلك ليس وليد اليوم ولا وليد أزمات الربيع العربي أو الأحداث في سوريا، بل إن الأوروبيين قد جعلوا، وبمجرد الفراغ من توسعة إتحادهم وتقويته، من موضوع الهجرة بنداً أساسياً في كل لقاء يجمعهم بقادة ما يسمونه «دول الجوار الأورومتوسطية» التي تصدَر لهم كل عام آلاف المهاجرين وطالبي اللجوء.
الطريف أن الحديث عن الهجرة غير الشرعية يفترض ضمناً أن هناك هجرة شرعية ويصور المهاجرين الباحثين عن حياة وكأنهم مزورون أو مجرمون فضلوا اتباع طريق غير شرعي، لكن الحقيقة التي يعلمها الجميع ويشتركون في ذات الوقت في إنكارها هي أنه لا يوجد مجال لهجرة شرعية وأن الحل الوحيد للقبول بك كلاجىء هو أن تصل إلى تلك البلاد حياً وأن تفرض وجودك على السلطات هناك لتترك لها مهمة توفيق أوضاعك.
أما بالنسبة للاجئين السوريين فنحن أمام وضع إنساني مختلف، فليس الأمر مجرد هرب إلى أوروبا من أجل حياة أفضل أو من أجل أسباب اقتصادية بحتة، بل هو أولاً «لجوء» وليس مجرد هجرة، أي أن هؤلاء الناس قد ضاق بهم المكان وشعروا بتهديد حقيقي وخطر على حياتهم دفعهم دفعاً إلى ركوب البحار أو السير عبر طرق الموت براً أو عبر الجليد من أجل الوصول إلى بلد آمن.
هل هو الوقت المناسب لنتساءل عن سر اختيار القارة الأوروبية البعيدة دون غيرها من الدول المجاورة؟ من الناحية الإنسانية لا أعتقد أن ذلك يبدو منطقياً فلو وجد هؤلاء ما يبحثون عنه من فرص للحياة وللكرامة في تلك البلاد القريبة جغرافياً لما لجأوا للمخاطرة بحياتهم وحياة أبنائهم.
إن من يستمع لحديث المسؤولين الأوروبيين يتخيل أن بإمكان اللاجىء أن يتقدم بطلب «شرعي» من أجل البحث عن مهجر. شخصياً أعرف دولاً قليلة ترحب، نظرياً، بمثل هذه الإجراءات ككندا مثلاً، لكنني أعرف أيضاً أن ذلك الإجراء من التقديم وحتى موعد السفر قد يستغرق شهوراً وأحياناً سنوات. أي أنه وحتى إن كان مناسباً لشاب يرغب في تجديد حياته عبر البحث عن موطن جديد، فإنه لن يكون ابداً مناسباً للاجىء لا مكان له لينتظر فيه. لاجىء لا يمتلك في أغلب الأحيان رفاهية حمل أوراق ثبوتية أو مستندات معقدة.
(بين مزدوجين أذكر فقط بالطفل الغريق إيلان الذي فشلت عائلته في الحصول على تأشيرة دخول شرعية لكندا مما عرضهم لتلك المأساة التي أثرت على الملايين حول العالم).
في أوروبا تظهر ملامح وضع قاتم من خلال البؤساء الذين يحاولون النفاذ إلى بريطانيا عبر مدينة «كاليه» الفرنسية تتبعاً لما يسمعونه عن أوضاع أفضل في بلاد الإنكليز، كما تظهر من خلال قوافل الموتى الذين يرمي جثثهم البحر بقسوة كل يوم. أما في الشرق وحيث البلدان الأوروبية الأقل نمواً فتظهر العنصرية والممارسات القاسية حيث تحاول تلك الدول منعهم من الدخول ابتداء أو ترحيل أكبر عدد منهم في حين يحاول هؤلاء أن يوضحوا أنهم إنما يتخذون من تلك الدول بوابة للعبور لا أكثر. دوامة المآسي والتعقيدات لن تنتهي بتشديد الرقابة على الحدود أو بناء بوابات أو جدران عازلة أو تفعيل الكشف عن الهويات بين دول الإتحاد التي كانت تفخر بتجاوزها تلك المراحل منذ أمد واعتمادها سياسة «دعه يمر» طالما كان في نظاق منطقة «الشنغن».
المستجدات الجديدة ستطرح بقوة العديد من الأسئلة التي سيكون لها صدى كبيرا على الصعيد الإنساني وعلى صعيد التشريعات الأوروبية التي بدأت تتجاهل اتفاقات الحدود المفتوحة لتدقق على الهويات وتراقب منافذ الدخول والخروج على طريقة دول العالم الثالث مما يفقد الاتحاد الأوروبي تميزه وبريقه، فلم يبق للمشرّع الأوروبي إلا أن يضيف بنداً يمنح حرية التنقل باستثناء القادمين من سوريا أو الشرق الأوسط!.
وحتى لا نحمل اللاجئين السوريين وحدهم وزر تفكيك الاتحاد الأوروبي فإنه يجب ان نذكر بأن الأزمات والاختلافات بين الدول الأوروبية كانت على الدوام حاضرة، فكانت الدول القريبة من المتوسط ومن منافذ الهجرة تطالب الدول الأبعد بمساعدتها على تحمل نفقات إقامة هؤلاء الوافدين أو على مراقبة الحدود بحيث يتم التقليل من أعدادهم خاصة وأنها دول ذات مساحات واقتصاديات محدودة.
الدول الأغنى كانت تقدم ما لا يكفي وتحمّل في ذات الوقت دولاً كاليونان وإيطاليا مسؤولية إنسانية في القيام بأعباء هؤلاء المهاجرين.
ما كانت تفعله الدول الأضعف هو فتح المجال للقادمين من أجل المرور إلى دول كفرنسا وألمانيا وغيرها وهو ما كانت تلك الدول تعتبره تجاوزاً لاتفاقيات اللجوء التي تعتبر أن الدولة الأولى التي يحط فيها المهاجر هي وحدها التي تتحمل مسؤولية رعايته من جهة والبت في قضيته من جهة أخرى (معاهدة دبلن).
مشهد آخر حدث بعد انضمام عدد من دول أوروبا الشرقية للإتحاد حيث اعترض كثيرون على تدفق مواطني تلك البلاد إلى دول الغرب الأوروبي وبدأوا في التفكير في تشريعات مقيدة للتنقل والإقامة حتى بين الأوروبيين وهو ما فعلته فرنسا على سبيل المثال من خلال تعاملها مع أزمة الغجر الرومان.
كل ذلك يوضح كم أن القضية معقدة وشائكة، لكنها بكل تأكيد شائكة أكثر على صعيد التعامل مع القادمين من الدول العربية فهم، وعلى عكس الأوروبيين الشرقيين مثلاً، يحملون ثقافة مختلفة وديناً ينظر إليه غالبية الأوروبيين بتشكك.
هي ليست شائكة فقط ولكنها مزعجة أيضاً بحيث تضع الدول الغربية أمام ضميرها وتجعل الملايين من أبنائها يتساءلون عن حقيقة الدور الغربي في المنطقة ومساهماته السلبية في تعقيد كل مشكلاتها وأزماتها، إما عبر تدخل مدمر مباشر أو عبر دعم أنظمة تتفنن في جعل الحياة لا تطاق بالنسبة لمواطنيها بحيث يفكرون بالسفر والهروب إلى أي مكان. لقد أعجبت جداً بكلمات السيدة أنجيلا ميركل وحديثها عن الوقوف بصرامة أمام كل العنصريين الرافضين لاستقبال مهاجرين جدد، كما لفتتني عباراتها عن ألمانيا التي ترى أن من واجبها الإنساني الوقوف بجانب كل محتاج.
لقد شرحت ميركل لشعبها موقفها بوضوح وأعتبرت أن ذلك موقف يجب أن يتفق عليه الجميع باعتباره واحداً من القيم الألمانية، لكن المستشارة الألمانية لم تشرح بذات الوضوح كيف وصلت تقنيات الأسلحة الكيميائية لنظام الأسد، أو لماذا كان موقف ألمانيا معادياً للثورة السورية وأقرب إلى خط النظام بمعارضتها منذ البداية وبقوة كل محاولات دعم الثوار بالسلاح، بل معارضتها حتى فكرة التدخل الإنساني لخلق منطقة آمنة في الداخل السوري؟ ربما يبدو الأمر لأول وهلة غير ذي علاقة ولكن القاعدة تقول أن ما يزرع في المنطقة العربية سيحصد عاجلاً أو لاحقاً في الدول الغربية، ولفهم أعمق يمكن النظر في المثال الآتي:
لسبب أو لآخر دعمت ألمانيا مجموعات كردية في سوريا والعراق، هذا الدعم وصل بطريق مباشر أو غير مباشر إلى ما يسمى بوحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني وكلاهما من حلفاء النظام السوري. هذا الدعم لم يؤد فقط إلى زعزعة الأوضاع وتشجيع روح الانفصال، بل شكل أداة للظلم والقتل والتهجير كان المشهد القاتم الحالي من أهم نتائجها.
هنا تتحقق بوضوح العبارة الشهيرة: العالم ليس سوى قرية صغيرة..!.
٭ كاتب سوداني
د. مدى الفاتح