كتبتُ ـ مرّتين، هنا في هذا العمود ـ عن ياشار كمال (1923 ـ 2015)، الروائي التركي ـ الكردي الذي رحل عن عالمنا مؤخراً. الأولى كانت قبل أشهر، حين اتخذ موقفاً تسامحياً راقياً، له صفة المواطنة العلمانية والديمقراطية، إزاء احتمالات المصالحة التركية ـ الكردية، بين «حزب العمال الكردستاني» و «حزب العدالة والتنمية» على وجه أدقّ. وأمّا المرّة الأولى، فقد كانت في سنة 2005، حين تردد أنّ أورهان باموق على لائحة مرشحي الأكاديمة السويدية لجائزة نوبل للأدب (التي سيفوز بها، بالفعل، ولكن في دورة 2006).
قناعتي، يومذاك، كانت أنّ كمال هو الأجدر بالفوز، لأسباب عديدة؛ لعلّ أبرزها أنه أديب محليّ وكونيّ في آن معاً، وأعماله الملحمية تلتقط، على الدوام، مشاهد بشرية وجغرافية حاشدة؛ ملأى برموز كبرى تبدأ من تمثيل القرية، ثمّ الأمّة والشعور الجَمْعي والثقافة، وتنتهي إلى تمثيل قِيَم إنسانية عليا تشترك فيها شعوب وحضارات. اعتبار آخر إضافي، كان جوهرياً في يقيني، هو أن فوز كمال كان سيكرّم أدبَيْن في آن معاً: الكرد أوّلاً، وتركيا ثانياً.
وها أنّ رحيل الروائي الكبير يعيدني إليه، مجدداً، فأجدني أتوقف عند حقيقة اقترنت على الدوام بشخصيته الروائية: أنه سعى إلى أن يكون «بائع حكايات»، كما يقول عن نفسه باعتزاز، وطموح أيضاً: حكايات ذات صبغة محليّة (كردية أو تركمانية أو تركية)، جمعها بنفسه إثر تجوال طويل في قرى وسهول وجبال الأناضول، ثم اشتراها منه الأكراد والأتراك والتركمان، قبل أن يشتريها العالم بأسره فيقرأها بعشرات اللغات. وفي الإعراب عن سعادته بأداء هذه الوظيفة، وبالتالي إيمانه أيضاً بدور الكلمة في الحياة الإنسانية، كتب يقول: «إنني رجل أدب. ومنذ أن شرعتُ في هذا المسار الأدبي، بذلت ما في وسعي لخدمة الناس. وأقول «الأدب» وليس «الكتابة» لأنني لم أبدأ عملي الأدبي بالكتابة. وحتى بلوغي سنّ السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، كنتُ راوي حكايات شعبية وجامع فولكلور. ولقد اعتدت التجوال من قرية إلى أخرى في منطقة جبال طوروس، راوياً الحكايات التي تعلمتها من رواة الحكايات الروّاد في منطقة شوكروفا حيث ولدت».
من جانب آخر، كان كمال جامع مراثٍ شعبية، وأشعار رعوية، وتراثات شفاهية شتى؛ تخصّ حياة الفلاحين والرعاة والكادحين، في الأرياف والقرى والسهوب، لكنها تسجّل أيضاً مظاهر الشقاء والبؤس والكفاح والصراعات الاجتماعية؛ الأمر الذي جعل كمال روائياً تقدمياً ويسارياً، دون أن يُخسف أدبه إلى مصافّ الواقعية الفوتوغرافية والميكانيكية. تلك حال أفضت إلى بناء علاقة مركبة مع الجمهور، سواء قارئ كمال الروائي، أو المستمع إلى كمال الراوي، إذا وضع المرء جانباً ذلك البُعد الثالث الذي صنعته الترجمة إلى لغات عالمية.
«خلال الزمن الذي قضيته في رواية الحكايات، أدركت تأثير فنّ الأدب الشفاهي. وفي القرى والمناطق الريفية، حيث كنت أحظى بجمهور يقظ متحفّز لمصاحبتي في الأداء، كانت كلماتي تكتسب أجنحة وتحلّق، فكنت أتابع ما أسرده بمزيد من الحماس والبهجة. وحيثما قُيّض لي جمهور أقلّ عدداً واستجابة، كنتُ ألاحظ أن أدائي يبهت أو يتعرقل. ذلك لأن المعلّم المتمرّس في رواية الأقاصيص لا يكتفي بسرد ما توجّب عليه حفظه فقط، وكلما سرد حكاية فإنه يعيد إنتاجها من جديد، تبعاً لاستجابة الجمهور المصغي إليه. هذا هو السبب في أن الملاحم والحكايات ــ مثل الحصى الراقد في قاع المياه طيلة 40 ألف سنة ــ تنتقل من راوٍ إلى آخر، فتُغسل، وتُنظّف، وتُنعّم، وتُصقل حتى تلتمع»؛ كتب كمال في شهادة شهيرة، تعقيباً على فوزه بجائزة الكتاب الألماني، سنة 1997.
يبقى أن وعي كمال، الفتى، تفتّح على الهمّ الكردي، وعلى العصيان؛ إذْ عاش مع عمّ أبيه، الذي شارك في ثورة الشيخ سعيد، أواسط عشرينيات القرن الماضي، لانتزاع حقوق الكرد القومية من السلطة الأتاتوركية؛ وكان عمّ أمّه قاطع الطريق الأشهر في الأناضول الشرقية وإيران والقوقاز على حدّ سواء، ضمن فئة قطّاع الطرق «الشرفاء»، الذين يسلبون الأغنياء ويغدقون على الفقراء. كذلك تأسست طفولة كمال على رحلات الاصطياف السنوية التي كانت القرية تقوم بها إلى ذرى جبال طوروس، حيث أتيح للفتى أن يعايش طبيعة جغرافية ونباتية وحيوانية بالغة الثراء والتعدّد، انطبعت عميقاً في مخيّلته، وسوف يستدعيها ويوظفها في جميع أعماله بلا استثناء.
رحيله خسارة لآداب الكرد والترك، أوّلاً؛ وللأدب العالمي الكوني، ثانياً؛ كما أنّ فنّ الـــرواية سيفـــتقد ذلك المعلّم البارع الذي أتقن صناعة جناس رفيع، بين كتابة الروائي ومشافهة الراوي.
صبحي حديدي
العميق دائماً .. صبحي الحديدي !!
لم يفز بجائزة نوبل و لكنه عاش ليرى تركيا تخطو خطوات سريعة نحو الديمقراطية و تجاه الاعتراف بحقوق الأقليات و ليشهد بذور المصالحة بين الكرد و الترك و لينال تكريم الدولة و اعترافها بأدبه .ربما لم يعتقد في صباه أن رئيس الدولة التركية سيتصل بأهله معزيا عند وفاته و أن رئيس وزراءها سينعاه و يعلن حزنه على رحيله. برأيي, هذا أهم من نوبل!