قاربت المهلة القانونية لدعوة الهيئات الناخبة للانتخابات التشريعية على الإنتهاء، ولمّا يصر بعد إلى الإتفاق على قانون إنتخابي جديد. هذا في وقت تزايد فيه الإصرار من طرف رئيس الجمهورية وتيّاره وحلفائه بأنّ لا عودة إلى قانون الستين مهما كلّف الأمر، وأنّ لا تمديد للمجلس النيابي الممدّد له مرّتين حتى الآن، مهما كلّف الأمر أيضاً.
وهكذا، أقفلت السياسة الباحثة عبثاً عن قانون انتخابي جديد يتفق عليه أقطابها الباب على نفسها. زادت حشرتها في المدّة الفاصلة عن دعوة الهيئات الناخبة، صارت تحسب بالساعات. حاول الوزير جبران باسيل التقدّم بمشروع قدّم على أنّه آخر ما قد يطرح في ربع الساعة الأخير. عومل مشروعه بفتور أقرب إلى الرفض. ثم.. انزاح النقاش فجأة، إلى سلسلة الرتب والرواتب للموظفين في القطاع العام، القضية المطروحة منذ سنوات طويلة.
ولأنّه يتعين تمويل هذه السلسلة، اقترع المجلس النيابي على ضرائب جديدة محالة عليه. أثار هذا نقمة شعبية. التقط الرئيس الشاب لحزب الكتائب سامي الجميل اللحظة، لا ليعتبر بأن المجلس الحالي عمره ثماني سنوات، وغير مؤهل لأن يكون بدلاً عن قنوات تفاوض اجتماعي مسدودة أو متلفة. بل أخذ الجميّل منحى يساروي لطرحه. طالب بتمويل السلسلة بوقف الهدر والفساد، بالتوازي مع تصاعد الوتر الاحتجاجي على الضرائب، ومعها الدعوة المزمنة، لكن التي نجحت لأول مرة في التقدّم إلى مركز الضوء الإعلامي والسياسي بهذا الشكل، لأن تتحمّل المصارف والشركات المالية قسطاً رئيسياً في السلّم الضريبي.
ما بين الحلقة المفرغة للقانون الإنتخابي العتيد، وانسداد قنوات التفاوض الإجتماعي، يعيش البلد بعضاً من تداعيات تآكل بقايا العقد الإجتماعي فيه، من دون صعود أي خطاب سياسي منهجي مهموم بإستصلاح هذا العقد الإجتماعي والبحث عن الشروط المساعدة على ذلك.
وفي غياب همّ استصلاح العقد الإجتماعي، تشعر كل جماعة بأنّها دائماً على حقّ، وبأنّها من الأصل مظلومة، وأنّ شعور الجماعات الأخرى بالشيء نفسه هو إدّعاء ونفاق. «حقوق المسيحيين»، «حقوق القضاة»، «حقوق المعلّمين»، «حقوق الضبّاط»، «حقوق المزارعين»، «حقوق الصحافيين»، سرديات تعلو وتخفت وتتابع على شاشة التلفاز، في بلد نحيت منه سريعاً أبرز مؤسستين قال بهما اتفاق الطائف، ولهما علاقة بالعقد الاجتماعي، المجلس الدستوري، بوصفه الهيئة المراقبة لدستورية لقوانين، والمجلس الاقتصادي الاجتماعي، بوصفه الهيئة المفترض فيها التحول إلى مجال للتفاوض الإجتماعي.
هذه الخفة التي يصار بها إلى التعاطي مع مرور ثماني سنوات على آخر استحقاق نيابي، وتلك الخفة التي تتعاطى بها الهيئات الاقتصادية وقيادة أركان الأوليغارشية المصرفية والتجارية اللبنانية مع كل الدعوات لتقويم الأوضاع الاقتصادية والمالية بإتجاه يراعي الحد الأدنى من الحس الإجتماعي، كل هذا يزيد من تآكل ما بقي من أطلال العقد الإجتماعي في البلد.
في الوقت نفسه، تأتي الضرائب الجديدة، فتطاول بشكل أساسي فئات من الطبقة الوسطى ومجالها الإستهلاكي أكثر من أي طبقة أخرى. مع ذلك لا تزال التحرّكات عالقة في ذهنية وثقافة تمجيد «الفقراء» والتنديد بسياسات «التجويع».
والطبقة الوسطى لا تزال تعاني في ايجاد التعبير الاجتماعي كما السياسي عن نفسها، ذلك أنها واقعة بين هيمنة خطابين. خطاب الأوليغارشية والهيئات الاقتصادية من ناحية، الذي بات عملياً يتناقض أكثر فأكثر مع حرية التجارة ومنطلقات اقتصاد السوق الحرّة والخصخصة الحرّة التنافسية ويتعارض مع مبدأ المبادرة الفردية الملحوظ في مقدّمة الدستور، مثلما يتعارض مع مبدأ العدالة الاجتماعية، الملحوظ في المقدّمة نفسها، وتعتبر أن التربّح يكون بأسهل السبل، وأبعدها عن الإرتباط بالإبداع والبراعة. والخطاب القائم على تمثّل ذوات مثالية جماعية كـ»الشعب» حيناً، و»الفقراء» حيناً آخر، ولتقديم تفسير اختزالي للمشكلات اللبنانية، بإقامة تعارض بين «الشعب» ككل، وبين شيء يدعى «طبقة سياسية»، في نكوص عن أي مقاربة جدية لطبيعة النسق اللبناني، الاقتصادي الاجتماعي والثقافي والسياسي، الذي بات يستند أكثر فأكثر إلى رأسمالية دولة تقودها، مالياً، حاكمية المصرف المركزي، أو هيئة الإرشاد والإسناد العمومية للمصارف الخاصة، وتكون فيها الدولة مدينة لهذه المصارف، والناس كمودعة ومدينة لهذه المصارف في منزلة مزدوجة، فهي دائنة للدولة ومتنكبة بعناء خدمة مديونية هذه الدولة في ذات الوقت.
هذا النسق اللبناني، محكوم برأسمالية الدولة، في حين تركز التنديد ذو الخلفية اليسارية تقليدياً، بـ»النظام» الرأسمالي (الكولونيالي أو الريعي أو الطرفي أو التبعي أو النيوليبرالي أو ما شئت من تصنيفات) كما لو كان لاغياً لفكرة الدولة في لبنان. جهاز الدولة، وخصوصاً جهازها المالي، المتمثل بالمصرف المركزي ووزارة المالية، لا يكتفي فقط بأدوار ثانوية لصالح المصارف الخاصة، بل إنّه يتحكّم بحركة هذه المصارف الخاصة، ويستفيد أكثر فأكثر من الأجندة المطلوبة منه من المؤسسات المالية الدولية ومن الحكومات الغربية المنخرطة في الحروب على الإرهاب، لتثبيت مرجعيته وقواميته هذه، بالشكل الذي بات بإمكانه القول أنّه خارج المؤسسات الدستورية في لبنان هناك مرجعيتان: حاكمية المصرف المركزي من جهة، وووكيل ولي الفقيه الإيراني أمين عام حزب الله من جهة ثانية.
هذه السمة الأوليغارشية للنسق اللبناني، تتشابك إذا مع سمة الدولة فيه كرأسمالية دولة، رأسمالية دولة لا تزال غير منفتحة على أي خصخصة جدية للقطاع العام، لأي خصخصة حرة تنافسية، بل تفضّل خصخصة تجيء على صورة «الوكالات الحصرية» ونموذجها. في الوقت نفسه، إذا كانت رأسمالية الدولة هذه «غير اجتماعية» من ناحية سياساتها الضرائبية، فإنها «اجتماعية» بمعنى ايوائها لعدد كبير من الموظفين في الدولة، يمثّلون جزءاً من الطبيعة التكافلية للقنوات الطائفية الحزبية، التي تعني أيضاً أن «القاعدة الإجتماعية» للمستفيدين من «دولة المحاصصة» كما يندّد بها في الغالب، هي قاعدة أوسع بكثير مما يعتقده الآخذون بالمقاربة الشعبوية («شعب» فقير ومعثر في مواجهة «طبقة سياسية»).
أن تستعيد الطبقة الوسطى ثقتها بنفسها في لبنان يعني أن تواجه في وقت واحد، خطاب «الهيئات الإقتصادية» المبرّر لأي ظلامة اجتماعية بحجّة «تحريك الإقتصاد»، وخطاب تمجيد «الفقراء» و»الشعب»، بدلاً من المقاربة الشاملة لتعدّدية الكتل الاقتصادية الاجتماعية ومواقعها وأدوارها، ولطبيعة الدولة، غير المكتفية أبداً، بحراسة النظام الإقتصادي الرأسمالي، بل التي تديره، من خلال جهازها البيروقراطي المالي.
وأن تستعيد هذه الطبقة الوسطى ثقتها بنفسها يعني أن تستعيد ثقتها بقدرتها على إعادة تصويب النقاش إلى المطرح الذي يجري التفلت منه: النقاش حول العقد الإجتماعي، أي حول ما يمكنه أن يجعل المتشاركون في مجتمع واحد لا يشعر كل رهط منهم أنّه محق ومظلوم، في ذات الوقت وطول الوقت.
من دون استعادة الطبقة الوسطى ثقتها بقدرتها هذه، من دون أن تشعر البرجوازية الوسطى والبرجوازية الصغيرة، بالتعبيرين الماركسيين بأن هذا البلد بلدها أكثر من أي طبقة اجتماعية أخرى، سيمضي لبنان إلى المزيد من انسداد قنوات التفاوض الإجتماعي، والمزيد من عبثية الكلام السياسي فيه.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة