في يوم الأرض كنت مثل غيري من الملايين في العالم العربي والشتات أتابع المسيرة الضخمة التي نظمتها لجنة «مسيرة العودة» في ذكرى يوم الأرض الذي يوافق الثلاثين من آذار/مارس من كل عام والتي كانت تنقل نقلا حيا من تليفزيون فلسطين. كنت مزهوا بمثل هذا العمل العظيم الذي كان أقرب إلى الحلم بعد ما شاهدته بنفسي من ضعف التجاوب الشعبي مع المظاهرات الحاشدة بما فيها أكبر مظاهرة خرجت من رام الله نحو مخيم قلندية أثناء مجزرة صيف 2014 التي أطلق عليها 48+48 ، أي في ذكرى نكبة 48 نود أن نجمع 48 ألفا للتضامن مع الشعب الذي تأكل لحمه وحوش الجو والبر والبحر، فلم يأت إلى المظاهرة ربع هذا العدد.
وبعد ما ولغ الجيش المدجج بآلات الموت في دم المتظاهرين سلميا وعلى أرضهم، وبعدما تبين أنها مجزرة مروعة مع نهايات النهار راح ضحيتها كوكبة من الشهداء وآلاف الجرحى استجاب رئيس مجلس الأمن الهولندي لطلب السفير الكويتي، منصور العتيبي، العضو العربي الوحيد في مجلس الأمن، وقرر عقد جلسة مشاورات مغلقة. وبعد نحو ساعتين افتتحت الجلسة واستمرت ساعة وأربع دقائق تحدث فيها مساعد الأمين العام للشؤون السياسية وعدد من المندوبين. ورأيت أن أقدم عرضا للمشهدين المتناقضين في الجمال والقبح والبطولة والخواء والصدق والنفاق، فشتان بين مشهد البطولة والإبداع والعفوية في غزة وبين الخطابات المعلبة والخشبية وكلمات النفاق والمواربة واللغة المبهمة والعبارات المكررة لدرجة الملل.
المشهد من غزة
إن أعظم ما تمثله مسيرة العودة أنها رسمت الطريق الصحيح والوحيد لاسترجاع الحقوق والتمسك بحق العودة إلى الأرض التي طرد منها أصحابها الأصليون ليسكن في مكانهم غرباء جاؤوا بالسفن والطائرات من بلاد بعيدة، ليس لهؤلاء ذنب فيما تعرضوا له من مجازر أو تمييز. لقد جمعت مسيرة العودة خصائص عديدة لم تتوفر في مسيرة أخرى: الزخم والسلمية والوحدة الحقيقية تحت علم واحد وحيد والانضباطية العالية والطاقة والشمولية لكل أطياف الشعب الفلسطيني.
كنت أضع يدي على قلبي طوال المسيرة خوفا من قيام أحد المتهورين أو الطائشين أو المدسوسين بإطلاق ولو رصاصة واحدة تجاه الجيش الذي ينتظر ويتمنى ذلك. ولو أطلقت رصاصة واحدة لبرر العالم كله المجزرة بمن فيهم صهاينة العرب الجدد. أنْ تبدأ المسيرة وتنتهي وترتكب المجزرة بكل فظاعتها ولا تطلق طلقة واحدة عبر الحاجز الفاصل فهي أعلى درجات الحضارية والانضباط والمسؤولية. ولذلك لم يجد السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة سببا لتبرير المجزرة إلا الكذب الرخيص حين كتب لمجلس الأمن: «وبالرغم من إصرار القيادة الفلسطينية على الطبيعة السلمية لهذه المظاهرات فإن حماس والفصائل التابعة لها وزعت الإرهابيين المسلحين بين المدنيين، فقتل عدد منهم نتيجة لهجماتهم المباشرة على المواقع الإسرائيلية»، هل هناك رعونة أكثر من هذا الإدعاء؟
ولا يملك أحد إلا أن ينحني إحتراما لكل من خطط ونظم وقاد. وتحية إجلال واحترام للشهداء والجرحى والمشاركين. وتحية للشعب العظيم والعنيد الذي ما فتئ يحمل روحه على راحته ويقدمها فداء للوطن.
المشهد من مجلس الأمن الدولي
افتتحت الجلسة رسميا الساعة 7:42 وانتهت الساعة 8:48 مساء. فقد استجاب السفير الهولندي، رئيس مجلس الأمن، لطلب السفير الكويتي الذي لم يتوان لحظة في التحرك السريع والدؤوب بالتنسيق مع السفير الفلسطيني رياض منصور، وانتقل بالجلسة من المشاورات المغلقة إلى الجلسة المفتوحة. وقد بدأ مساعد الأمين العام للشؤون السياسية، تايي بروك- زريهون، بكلمة لخص فيها الوضع و»أعرب عن القلق الشديد» للضحايا. لكنه مثل بيان رئيسه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، تجنب كلمة إدانة، وهناك فرق كبير في اللغة الدبلوماسية بين الإدانة والتعبير عن القلق الشديد. ولم يجد زريهون حرجا أن يقتبس مصادر إسرائيلية ويقول «ووفقا لتقارير قوات الأمن الإسرائيلية حاول المسلحون المرور عبر السياج الحدودي في محاولة لزرع المتفجرات. كما أفادت التقارير أن الفلسطينيين أرسلوا طفلة تبلغ من العمر تسع سنوات عبر السياج، لكن القوات الإسرائيلية أعادتها بأمان. وحسب ما ورد كان ممثلو حماس حاضرين في بعض التجمعات». أليس هذا منتهى النفاق وتزوير الحقائق لإعطاء صورة إنسانية لجيش قال سلفا إنه نشر 100 قناص وأعطيت لهم الأوامر بالقتل؟ أما طلب التحقيق في المجزرة فالأمين العام يعرف تماما أن إسرئيل لا تقبل بالتحقيق المستقل ولا تتعاون مع المحققين وإذا قامت هي بنفسها بالتحقيق فالنتيجة دائما معروفة «فلا خطأ إرتكب ولا أحد يدان».
السفير العتيبي كانت كلمته مؤثرة وأدان القتل بكل قوة، وأكد مرارا على أن المظاهرة كانت سلمية بالمطلق وجرت على أرض غزة. وسأل أعضاء المجلس إذا كان الشعب الفلسطيني هو الوحيد المستثنى من مبدأ «المسؤولية عن حماية المدنيين» الذي أقرته الأمم المتحدة.
ممثل الولايات المتحدة والتر ميللر أخذ الكلمة ليعترض على عقد الجلسة أصلا في غياب السفير الإسرائيلي، داني دانون، لأنه يحتفل وعائلته بعيد الفصح اليهودي. أي أن المجزرة لا تستحق أن يستدعى السفير للحضور فيضطر أن يقطع إجازته المقدسة من أجل قتل 15 فلسطينيا وجرح أكثر من 1400. لكنه لم ينس على من يضع اللوم:»المسؤولون السيئون هم الذين يستخدمون الاحتجاجات كغطاء للتحريض على العنف ويعرضون حياة الأبرياء للخطر».
لقد تكررت عبارات خشبية في معظم كلمات الوفود منها: «دعوة جميع الأطراف إلى ضبط النفس»، «تخفيف التوتر والتصعيد»، «الحوار والمفاوضات هما السبيل الوحيد للتوصل إلى تسوية»، «استغلال الإرهابيين للمدنيين»، «عدم استخدام القوة المفرطة».
الوحيد من بين السفراء الأجانب الذي كان واضحا في إدانته هو سفير بوليفيا الذي قال إن السبب في هذا الإحباط لدى الشعب الفلسطيني هو 70 سنة من الصراع والتشرد و 50 سنة من الاحتلال ثم يأتي ترامب ليعترف لهم بأن القدس عاصمة لإسرائيل ويقرر نقل السفارة فكيف لا يؤجج المشاعر. سفير البيرو العضو الجديد في المجلس، وأحد المتزلفين للسفيرة الأمريكية ذات الكعب العالي بدأ كلمته بإدانة الإرهاب الذي تتعرض له إسرائيل، ونائب سفيرة بولندا لم ينس أن يدين الإرهاب والعنف الذي سبب هذا التصعيد واضعا اللوم تقريبا على الفلسطينيين. السفير الفلسطيني رياض منصور أحسن صنعا بقراءة أسماء الشهداء وذكر أعمارهم على أعضاء المجلس ولم ينس حكاية عمر وحيد نصر الله سمور، المزارع الفلسطيني الذي كان يفلح أرضه في بلدة القراراة في خانيونس بعيدا عن المظاهرات فأطلقت عليه قذيفة فقتلته قبل أن تبدأ المسيرة أصلا.
هذا هو مجلس الأمن الذي «أعطى الرئيس محمود عباس تعليماته للسفير الفلسطيني رياض منصور للتوجه لمجلس الأمن لطلب الحماية»، كما جاء في خبر عاجل ظل تلفزيون فلسطين يكرره طوال اليوم.
الأرض جوهر الصراع
كانت الأرض وستظل جوهر الصراع بين الحركة الصهوينية والشعب العربي الفلسطيني منذ اليوم الأول التي وطئت فيه قدم مستوطن قادم من الخارج إلى أرض فلسطين. والحركة الصهيونية كما عرّفها العلامة الراحل فايز الصايغ بكل بساطة هي عملية مزدوجة: ضخ أكبر عدد من اليهود في فلسطين وطرد أكبر عدد من العرب من فلسطين. هذه هي الحقيقة العارية يريدون الأرض كلها بدون جميع سكانها العرب. لم يتوقف هذا المخطط يوما واحدا أو شهرا أو سنة. وقد سنت إسرائيل بعد إنشائها العديد من القوانين للاستيلاء على أرض فلسطين التاريخية كتصنيف أراض بأنها مناطق عسكرية أو لأسباب أمنية أو قانون مصادرة أملاك الغائب أو بحجة التطوير والإعمار – لقد كان نضال الشعب الفلسطيني وما زال متمحورا حول الأرض وحمايتها من الاغتصاب والسرقة والمصادرة والتدمير والإهمال. وما حق العودة الذي اعتمدته الجمعية العامة في قرار 194 بتاريخ 11 كانون/ ديسمبر 1948 إلا إقرارا بحق عودة أصحاب الأرض إلى أراضيهم وديارهم التي طردوا منها بغير وجه حق كما جاء في الفقرة العاملة 11 من القرار والتي تنص على حق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم وحياتهم باقصى سرعة ممكنة، وبناء على هذه الفقرة أنشئت وكالة الإغاثة والتشغيل «أونروا» لتسهيل وتنفيذ تلك العودة.
سيبقى الصراع محتدما بين هاتين الروايتين- مغتصب يريد الأرض كلها وشعب يناضل لحماية ما تبقى منها واسترداد ما فقد بكل الوسائل: «فمنهم السيف ومنا دمنا، ومنهم الفولاذ والنار ومنا لحمنا ومنهم دبابة أخرى ومنا الحجر» إلى أن يحملوا حقائبهم ويرحلوا- فلنا في أرضنا ما نعمل.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز في ولاية نيوجرسي
د. عبد الحميد صيام
رائع
شُكِرْتَ أيّها الضّميرُ المسْتَعِرُ/ سَطَعْتَ يومَ تَخبُو الأقلامُ و تسْتتِرُ/ و قلْ “لأفعائيلَ” و “رُمَاتِها” / مَنْ ألقُوهَا فِينَا و حَبَرُوا / لا يأخذنّكُمُ حُبُورُكُمُ بعيدا انتظِروا / لئِنْ هَدَأتِ البراكينُ/ فمِنْ تحتِ الرّمادِ ينفجر الشَّرَرُ. تحيّة إجلال لهؤلاء العزّل الأبطال و ما بقي من الضّمائر الحيّة. سلام