أسئلة الأجيال

حجم الخط
3

مرّ الوطن العربي في تاريخه الحديث بمحطات ومنعطفات خطيرة، كان السؤال الثقافي يلعب فيها دورا مهما. ومهما كانت الأسئلة التي كانت تطرح في كل مرحلة من مراحل تاريخه، كي لا أقول تطوره، كانت على الأقل تطرح أسئلة جوهرية. فإلى العشرينيات من القرن الماضي، حيث كان العديد من الأقطار العربية يرزح تحت نير الاستعمار، كان سؤال الذات في علاقتها بالآخر مطروحا بشدة. ومع الاستقلالات التي بدأت تتحقق منذ الخمسينيات كان التوجه نحو سؤال «الاختيار» السياسي والثقافي المراد تطبيقه للخروج من التخلف والتبعية. وفي السبعينيات كان الانحياز ضد الإمبريالية الأمريكية، والنظام الرأسمالي تأكيدا للاختيار الذي تكرس إبان النضال ضد المستعمر. وجاء هذا الانحياز متزامنا مع النهوض الذي عرفته إفريقيا وأمريكا الجنوبية، وشرق آسيا.
في كل هذه المراحل كانت هناك أسئلة ثقافية يحملها الجيل السابق للذي يليه، وكان يضيف إليها ما يتماشى مع التطور، محليا وعربيا ودوليا. كانت الأجيال التي واكبت بدايات القرن الماضي تتلمس طريقها، عبر السؤال الثقافي، وبذلك كانت مساهمتها في تأسيس منطلقات للتطور، سواء على المستوى الإعلامي أو الثقافي، أو الفكري. وكانت مصر رائدة في هذا المجال.
في أواسط القرن بدأت تتعدد المركزيات الثقافية العربية، وساهمت الشام والعراق بدور كبير في بلورة رؤية جديدة تفاعلت فيها بشكل كبير مع ما تم تشكيله في مصر. وسيلعب في المغرب العربي دور في تثمين التجربة وتطويرها في السبعينيات والثمانينيات عن طريق فتح حوار نقدي مع ما راكمته التجربة العربية في الصيرورة. وفي هذا تجل لما سميناه تعدد المركزيات الثقافية. ومنذ التسعينيات إلى الآن بات لدول الخليج دور مهم، على المستوى الثقافي العربي بصورة واضحة، ومختلفة عما كانت عليه الأمور قبل هذه المرحلة، مع التنويه بالتجربتين الكويتية والبحرينية السباقتين في هذا المضمار.
منذ التسعينيات بدأت صورة هذه الخريطة العامة في التبدل، لقد حدثت تطورات كبرى على الصعيد العالمي، فإلى جانب انهيار جدار برلين الذي أدى عربيا إلى انهيار رهانات كبرى، على المستوى الثقافي والأيديولوجي، جاءت العولمة مجسدة بصورة خاصة في التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل التي جعلتنا أمام «العالم المترابط» ولكن غير المتفاعل. وفي هذه المرحلة استعاد السؤال الديني سطوته التي طرحت في بداية القرن الماضي، وصار التطرف الديني في قلب الصراع العالمي بعد تجاوز صراع القطبين، الذي ظل مهيمنا منذ منتصف القرن. ولم يؤد كل ذلك إلا إلى بعثرة مختلف الأسئلة الثقافية التي طرحت في الصيرورة ومحوها.
ما هو السؤال الثقافي الجوهري الذي يمكن أن نطرحه الآن، أو يطرحه المثقفون والمفكرون العرب حاليا؟ لا أجد في ما أقرأ الآن إجابات عن هذا السؤال. لا أريد التوقف عند الأسئلة التجزيئية، أو الاختزالية التي تختزل القضايا الكبرى التي يتخبط فيها العالم العربي، وهي ذات بعد وجودي، إلى قضايا العرق، أو اللغة، أو الهوية، أو الحرية، أو ما شابه هذا من الأسئلة ذات القيمة الخاصة، بل إنني حتى عندما أتابع ما يكتب بصدد هذه القضايا الجزئية لا أجد وضوحا ولا عمقا.
لقد ظل الفكر العربي الحديث منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قائما على رد الفعل على ما يفرضه عليه الآخر. وفي الوقت نفسه، كان يفكر في الواقع مما يستمده من فكر ذاك الآخر. أقصد بالآخر هنا الغرب الذي كان بالنسبة إلينا تحديا حضاريا، وقوة اقتصادية. لكن هناك آخرا آخر، وهو التراث الذي بقي يشكل بالنسبة إلينا النموذج القابل للاستعادة. لكننا في خضم التعاطي مع «الآخرين» معا، كنا مسلوبي الإرادة، والإدارة. ولم يكن عندنا سوى رد الفعل في صوره المختلفة والمتناقضة. فأنى لنا أن نطرح السؤال الملائم على المستوى الثقافي والفكري، للخروج من الوضع التاريخي الذي وجدنا فيه أنفسنا منذ الاحتكاك مع الغرب؟
ما هي حصيلة هذه الصيرورة التي عاشتها أجيال متعددة إلى الآن؟ استنفدنا علاقتنا بالتراث، لأننا لم نفكر فيه بطريقة جدية. لقد توقفت الاجتهادات في الدين في العشرينيات من القرن الماضي. والمشروعات التجديدية للتراث من منظور أيديولوجي أبانت عن انتهائها. ويكفي أن نطلع على ما يكتب في هذا الباب وإلى ما ينشر، وأن ننظر في واقع التيارات الدينية لنجدها تعاني فقرا شديدا على المستوى الإبداعي في الفكر الديني. الفكر الأوروبي الذي اتكأنا عليه منذ نهاية الحرب الثانية إلى الآن لا نواكبه، ولا نتعرف عليه. وهو أيضا بات بدوره يعاني من التحولات الطارئة على المستوى العالمي بسبب الرقامة، وليس له مركز توجيه يستقطب الأسئلة ويوحد المشاريع. وحتى «الخضر» الذين حاولوا أن يكونوا بديلا عن «الحمر» صاروا حركة احتجاجية أكثر منها تمثيلا لرؤية للعالم.
ما هو السؤال الذي يمكن أن نطرحه نحن العرب هنا والآن؟ الأدهى من ذلك من يمكنه أن يطرح هذا السؤال؟ أجيال السبعينيات تقاعدت. أجيال الثمانينيات متشائمة، وقيد التقاعد، ولا وقت لديها للتفكير. هل لجيل التسعينــيات سؤال؟ مجرد سؤال.

٭ كاتب مغربي

 أسئلة الأجيال

سعيد يقطين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    اجيال اوربا بعد الحرب العالمية الثانية تسير في مسار ثقافي متشعب ومتعدد الاتجاهات لكنه متطور بحكم الاستمرارية ضمن فترة استقرار سياسي وازدهار اقتصادي والتخلي عن السياسات الاستعمارية للأجيال السابقة ودون القطيعة مع الماضي اي التراث التراكمي. أما نحن فأجيالنا منذ بدايات القرن الماضي اذا اخذنا عينة كعائلتي مثلا نجد:
    جيل جدي كان يقارع الاستعمار العثماني
    جيل أبي كان يقارع الاستعمار الفرنسي
    جيلي يقارع الاستعمار الصهيوـ امريكي
    جيل ابنائي يقارعون الاستعمار الجديد المركب الصهيوـ امريكي ـ ايراني ـ روسي ( وهنا اتحدث عن الشرق الاوسط)
    وجيل أحفادي سيقارعون اشكالا اخرى من الاستعمار وهكذا دواليك إلى أن يقضي الله امرا كان مفعولا

  2. يقول S.S.Abdullah:

    ما الفرق بين ملئ الوعاء وإيقاد الشعلة، في قول ألبرت أينشتاين (ليس التلميذ وعاءً تملؤه، إنما هو شعلة عليك أن توقدها) لأن أي عملية تعليمية تحتاج معلم وطالب (الإنسان)، ومن هنا إشكالية مفهوم التعليم الإليكتروني الذي نشأ عن مشروع الفاتح التركي، أو مشروع القدوة السنغافوري، فبسبب مفهوم ترشيد المصاريف ستؤدي إلى إلغاء المنهاج (الوظيفة) ومن ثم إلغاء المعلم (الموظف)، فكيف ستكون هناك عملية تعليمية من الطالب ومحتوى الشابكة (الإنترنت)؟! ومن هنا أهمية إبدال نظام اقتصاد الفرد (راسمالي كان أم شيوعي أو مختلط بينهما كما هو حال الصين) باقتصاد الأسرة (مشروع صالح التايواني) الذي يعتمد على خمسة أركان (الحوكمة، لوحة المفاتيح، الحرف، الكلمة، الجملة) فطريقة صالح هي طريقة موحدة لتعليم كل اللغات ومن ضمنها لغة الآلة تُعين المعلم على كيفية الإبداع في العملية التعليمية ولا يكون استخدام أتمتة الآلة (الروبوت) كبديل له، لأنه ببساطة سيتفوق عليها في الأداء الوظيفي للفوز حتى بعقد الوظيفة في الحكومة الإليكترونية، لأن ببساطة الإنسان يدفع رسوم وضريبة، بينما الآلة لا تدفع فتؤدي إلى أن شبح الإفلاس يطارد مهد الفلسفة في اليونان منذ عام 2008 رغم كونها عضو في الاتحاد الأوربي النموذج العملي لمشروع مارشال عام 1945 أساس العولمة والاقتصاد الإلكتروني.

  3. يقول Ahmad:

    القوة هي الاصل و اساس كل شيء.الانسان بطبعه و غريزته يولد مقاتلاً والدليل انه يوجد انواع من فنون القتال جيدو .توكوندو .كونغ فو . كيك بوكسينغ.كيكو شنكاي. انواع مصارعة يابانية و رومانية و حرةً. و الملاكمة يطلق عليها اسم الفن النبيل و رياضة الشجعان فقط الانسان من بين جميع المخلوقات عنده كل هذه الانواع من القتال.وجميع الاسلحة المتطورة والمتقدمة طيران و صورايخ البداية كانت حجر مسنن و رمح خشب ثم تطورت شيئاً فشياً وتاريخ العالم كله هو السيطرة والنفوذ والقوة.القدس هو مكان رمز ديني.و لو كان باستطاعة العرب والمسلمين ان يسيطروا و يستولو عليه؟لكان ما انتظرو لحظة او دقيقة؟و تَخّيلوا العكس لو يوجد ثلاث وعشرين دولة يهودية بعدد الدول العربية و لا اقول بعدد الدول الاسلامية.المشكلة إذاً هي في العدد الدول العربية،الفرس لهم دولة ايران.،الاتراك لهم تركيا دولة واحدة.الباكستانيين لهم باكستان، والافغان افغانستان.واليونانيين اليونان و هكذا لو كان العرب لهم دولة واحدة مثل باقي و الشعوب لكانو افضل و اقوى لأن التحدّي والمنافسة والاحساس بالخطر يكون اكبر و اقوى .لكن عندما يكونون كثرة عدد وملوك و روؤساء و زعماء طوائف تكثر الفوضى والمشاكل بينهم وبين بعضهم البعض .

إشترك في قائمتنا البريدية