الطبّاخ الذي يسكنني!

حجم الخط
0

بيروت – محمود ضحى : إكتفيت بكوب من الماء الطازج. ظللت أحاول عدم التنفس كي لا أشتم رائحة هذا الشيء الموضوع أمامي. كان الجميع يأكل بنهم شديد. يشعرون بلذة مزدوجة، ليست على الشهية فقط، بل على المظهر الذي يطلون به على الناس من هذا المطعم الفخم.
أدرك أن من يجلس في ذلك المطعم يشعر بنشوة عميقة. يعوض لدقائق كل ما حرم منه لسنوات. يجلس خلف لوح من زجاج كبير يفصله عن المارة يتعمد النظر إليهم وهو يمسك خشبتين طويلتين تساءلت كثيراً كيف يتم استخدامهما في الطعام، وكانا سبباً إضافياً كي لا أتجرأ على تجربة «السوشي».
ترددت كثيراً قبل الخوض في شرح مسار تطور حياتي مع الطعام. كانت الفكرة هرجاً إلى أن اصبحت يقيناً بعدما قرأت نصاً عن الحضارة وانثروبولوجيا الطعام. كان النص ذكياً جداً يربط ما بين إشكالية تطور المجتمع وآلية تحقيق الشهية الممتعة. تذكرت آيات قرآنية تعد بأنهار من عسل وخمر وأشجار نخل في حضارة سلمية تشبه كل هذا الجمال.
لم يستهوني يوماً الطعام النيء. كنت أقف بجانب والدتي في المطبخ. بدأ حبي للمطبخ عند كل مرة كانت تصنع فيها والدتي «الحمص بطحينة»، حين كنت أفصفص لها حبات الثوم كيف تكافئني في النهاية بـ»لحسة» من «مدقة» التحضير تجمّع فيها الكثير من الحمص المهروس، فأستلذ بها وتزيد تعلقي بالمطبخ.
يتابع تفكيري بالنص وأحاول الربط بين المكان وتطوره والشهية. يذكرني بأن مطبخنا القديم كان يدخله الكثير من أشعة الشمس. أقرفص أرضاً، أضع تحتي بساطاً خفيفاً أحضّر خلطة «البيتزا» رغم أنني لم أتعلمها من أحد ولا حتى من برامج الطبخ المتنقلة بين شاشة وأخرى. غالباً ما أقدمها بطريقة حرفية، حتى أكتشفت أن في داخلي طباخا ماهرا يحمل موهبةً بسيطة بتركيب الأشياء فوق بعضها بعضاً، من دون إبتكار أو إختراع فقط عن طريق الشعور بالشيء والمحيط، بعدما غابت عني مواهب جيلي، فلم أتعلم لعبة كرة القدم، ولا حتى السباحة.
كانت موهبتي مزاجية جداً لا تخرج إلا في أماكن معينة. لم أخرجها خارج مطبخنا أزرق اللون. حتى عندما انتقلنا إلى منزلنا الجديد لم تعد تستهوني تلك الموهبة. أجد نفسي من دون أي حيلة بعدما رحلت الشمس واختلف الديكور. فتنجدني والدتي البيروتية بكثير من الأكلات التقليدية، التي بدأت أتعملها بإتقان بعدما أدركت خطر زواجي من فتاة لا تجيد طبخ تلك الأكلات، عندها ستنتهي حضارتي.
كان النص فيه الكثير من الخطر. يخبرني إن لم أتعلم كل الأكلات التي أتناولها يومياً في منزلي ستنعكس على نفسيتي بالسوء، وسأصبح خارج دوامة هذه الحياة وتطورها والإطار الذي أعيش فيه. سأصبح عاجزاً عن استدراك المتغيرات وإدراك الفرص فأطباقنا تحسن مزاجنا. وتلك النباتات التي نتناولها تنمو في معدتنا وتزهر عشقاً للشجر والنباتات، ربما عشقي لسلطة الخضار هو وراء شغفي الكبير بحب الطبيعة، وإقتناعي التام بأن إبنتي المقبلة سأطلق عليها إسم «ريف».
لم أعشق يوماً مشتقات اللبن يسمونها في بيروت «نواشف». أشعر بأنها تعارض شخصيتي. أنا المرح جداً لن تهزمني قطعة من الجبن وتجعلني أتخلى عن ابتسامة وحيوية طفل صغير.
عندما فكرت بتفسير لمدى حبي «للحم المشوي» وجدت أنني لا أهوى العيش مع القطعان. أريد التخلص من فكرة السير بدون تفكير. فأسقطت كرهي النفسي للقطعان على التلذذ بلحمهم بعد شوية، أما عشقي للأكلات البيروتية القديمة نابعة من تعلقي بتلك الأبينة القليلة المتبقية ذات الطابع المديني الكونيالي.
أشرب ما تبقى من كوب الماء في المطعم. أشعر بالقرف أكثر فأكثر من الطبق المقدم لي. يمر أمامي مطبخنا المتواضع ورائحة طعام والدتي. أتذكر لذة «الحمص بطحينة» في اللحظة نفسها، أشتهي الكثير منه. أخرج من المطعم، أحس بأن هذا الطعام لن ينبت بي حباً لشيء، فأهرب من تناوله ربما بعدما لم أجد مبرراً سطحياً لإنقطاع شهيتي عنه.

 الطبّاخ الذي يسكنني!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية