كان للرحيل عن الأوطان والبعد عن الأهل والأحباب بالغ الأثر في نفس المهاجر العربي. وانعكس ذلك في أدبه، وهو ما تجلّى في الأدب الأندلسي الذي بدا مختلفاً عن الأدب العباسي.
ولعلّ أثر الهجرة كان أعمق في الأدب المهجري في القارتين الأمريكيتين أواخر القرن 19 ومطلع القرن 20. فقد بدا مختلفاً عن الأدب المحلي في المعنى والمبنى، وكانت فيه دعوة إلى تخليص الأدب العربي من أغلال الماضي وقيود الأوزان والزخرفة البيانية واللّف والدوران، والسمو به إلى مستوى الأدب العالمي وأعلى درجات الإنسانية. من رواد هذا الأدب ميخائيل نعيمة الذي – فضلا عن ذلك – انفرد بالخوض في النقد واللغة. وقد تجلّى ذلك في كتابه «الغربال».
ما يلفتُ النظر في كتاب «الغربال» هو موقف ميخائيل نعيمة المتشدّد تجاه اللغويين والأدباء المحافظين المتمسكين بأصول اللغة وأحكامها، وتمرّغه المتكرِّر في وحل التناقض. إنّ الصورة التي تعلق في أذهاننا ونحن نطالع مؤلفات ميخائيل نعيمة هي صورة فيلسوفٍ حكيم متسامح مؤمن بالحرية والإنسانية. فيفاجئنا في كتابه هذا بوجهٍ آخر، متهجّماً على اللغويين والأدباء المحافظين إلى حدّ تشبيههم بأحقر المخلوقات، الضفادع: «لم أجد أفضل من النقيق نعتا للضجة التي يحدثها أمثال هؤلاء الناس، لذلك شبهتُهم بالضفادع». وهو بذلك لا يتقبّل آراءهم ولا يراعي حتى مشاعرهم. وبعد ذلك يناقض نفسه باعترافه باختلاف تصورات البشر: «إنّ الحياة يا صاحبي تعرض مشاهدها عليّ وعليك. قد ترى مشهدا لا أراه أنا وإن أكن مفتّح العينين، بل قد أنظر وإياك إلى مشهد واحد، فترى فيه أشياء لا أراها، وتسمع ما لا أسمعه».
ونراه يذود عن العامية ويرمي بسهامه العربية: «أشخاص الرواية يجب أن يخاطبونا باللغة التي تعوّدوا أن يعبّروا بها عن عواطفهم وأفكارهم… لوجب أن نكتب كلّ رواياتنا باللغة العامية، إذ ليس بيننا من يتكلّم عربية الجاهلية». يستوقفني خطابه أو بالأحرى موقفه المساند للعامية، فأعود بذاكرتي إلى آثاره الجليلة، فأجول بين فصولها الجميلة، فلا أرى فيها إلاّ الفصحى، وإذا به يدافع عن العامية ولا يكتب بها تماماً، كما يفعل اليوم الكثير من كُتّابنا. ونراه يثير مشكل اللغة في الرواية ولا يعرف الحلّ: «عبثاً، بحثت عن حلٍّ لهذا المشكل، فهو أكبر من أن يحلّه عقلٌ واحد، فالمسألة لا تزال بحاجة إلى اعتناء أكبر رجال اللغة وكتابها».
وعلى ذكر مسألة اللغة، يحقّ لنا أن نتساءل إن كان ميخائيل من رجال اللغة وذوي الاختصاص، مؤهّلا للخوض في موضوع اللغة الشائك الذي راح يخوض فيه الروائي والشاعر وعالم الاجتماع ومَن درسها ومن لم يدرسها، ومن أتقن أحكامها ومن لم يتقنها، مصدرين الأحكام الجائرة في حقها، متنبئين بموتها.
ليس مَن ينكر أن ميخائيل نعيمة شاعرومسرحيّ وكاتب مقال ومفكّر مدافع عن الإنسانية، وأنّه درس الحقوق في الجامعة الأمريكية. ولكننا ما سمعنا أنّه كان مختصّا في اللغة، وافر المعرفة فيها. وها هو يتجنّب الخوض في تعريف الكلمات: «لا تسلني أن أحدّد لك الشعر… فلا اطلاعي واسع لهذا الحد، ولا صبري طويل بهذا المقدار. فلنعدل عن تحديد الشعر وتعريفه».
ويسيء الظن باللغة فيراها مجرّد قشور، ويسيء فهم علاقتها بالفكر: «الفكر كائن قبل اللغة، والعاطفة قبل الفكر. فهما الجوهر وهي القشور». واللغة في الواقع هي الأساس، فالإنسان لا يستطيع أن يعبّر عن أفكاره من غير لغة، بل لا يستطيع حتى التفكير بدون لغة، فالفكر لغة صامتة مثلما قال أفلاطون.
ويعيب على النقاد نقدهم جبران لقوله:»هل تحمّمت بعطر وتنشّفت بنور» وما أخطأ النقاد. فكلمة «تَحَمَّمَ» في غير محلّها: تَحَمَّمَ وَجْهُهُ: اِسْوَدَّ (الغني)
ولا تخلو أعمالُه هو أيضاً من الأخطاء اللغوية مثل: «حبّا بشكسبير». والصواب: حبّاً لشكسبير، على منوال قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ» (البقرة/165) و»مقدرته في تنسيق شعره المنثور» والصواب:مقدرته على… ولا يمكننا الاستهانة بمثل هذه الأخطاء التي لا نراها في اللغات الأخرى. فحرف الجرّ الذي يرافق الفعل قد يغير معناه:»رغب عن الشيء» نقيض «رغب فيه».
ويناقض نفسه بنقده الألفاظ العربية القديمة ودعوته إلى الكتابة بلغة بسيطة تفهمها عامة الناس، ثم نراه يستخدم مفردات من المعاجم القديمة يستعصي على العامة فهمُها مثل: «وشل»: «وشل من بحر ما أعرفه أنا»! و«مندوحة»: «لا مندوحة لنا من الاعتراف»!
ونراه يتذمّر من مساعي حماية مفردات اللغة: «تكاد لا تفتح جريدة من جرائد سوريا إلاَّ تجد فيها باباً للوقوقة يدعونه باب تهذيب الألفاظ»، ثمّ نراه يعظّم شأنها: «إنّ لمفردات اللغة التي نصوغ منها منثوراتنا ومنظوماتنا صفات عجيبة وميزات غريبة. فلكل كلمة معنى وروح. ولكل كلمة رنة. ولكل كلمة صبغة أو لون». فإن كان يؤمن بما للألفاظ من صفات عجيبة، فلِمَ لا يدع غيره يختار ما يروقه منها وإن كان قديماً، والحكم للقراء؟ أوليس لكلّ إنسان ذوقه؟
ويرمي العربية المكتوبة بالعجز مقترحا إضافة اصطلاحات: «العامة تستعمل حروفا لا وجود لها بين حروف الهجاء المعروفة.. وتلفظ القاف في أكثر المحلات كالهمزة. فيجب أن نظيف إلى لغتنا بعض اصطلاحات تقوم مقام هذه الحروف». ألا يدري أنّ اللغة الإنكليزية دخلتها كلمات أجنبية مختلفة كتابةً ونطقاً ككلمة resumé، فهل قام الإنكليزي بإضافة حروف جديدة مثل é؟ وهل غاب عنه أنّ حروف الأبجدية الإنكليزية الحالية التي كتب بها وعددها 26 لم تتغير منذ القرون الوسطى؟ وما الذي يمنع الإنكليزي من إضافة ما شاء من الحروف لولا حرصه على حفظ الأصل واللغة! وإن اختارت قلة من العرب أن تلفظ القاف همزةً، فهل ذاك مبرر للمساس بالأبجدية؟ ثم ، ألا توجد في العامية الإنكليزية أصوات لا حروف لها؟ فهل فكّر الإنكليزي بإضافة حروف إلى أبجديته؟
دليل آخر على تشبّث الغرب بأحكام لغاتهم: في 1989، عيَّنَ رئيس الوزراء الفرنسي ميشيل روكارد المجلس الأعلى للغة الفرنسية لتبسيط الإملاء. فنشر المجلس «التصحيحات الإملائية» 6 كانون الأول /ديسمبر 1990. ومع أنّ التعديلات لم تمسّ إلا بعض الرموز فوق بعض الأحرف أو الشكل، إلاّ أنّها أثارت موجة غضب هزّت فرنسا ومنعت تطبيقها مطلع 1991 كما كان مقرّراً. ونراه يسيء الظن بالزملاء ويتسرع في إصدار الأحكام عليهم من غير حقّ، فيقول عن خليل مطران: «لماذا يضع لنا رقما بجانب (لا غرو) ويرسلنا إلى أسفل الصفحة لنرى أنها تعني (لا عجب)… فإما أنّه عربي يكتب بالعربية لأبناء العربية، ولا حاجة به إذ ذاك إلى تفسير ما يكتب، أو أنه يخاطب أبناء اللغة العربية بلغة أعجمية». مضيفاً: «إلا إذا كان يقصد من ورائها أن يقول لقرائه، إنكم والله لقوم جهّل، لا تعرفون من لغة أجدادكم وشلا من بحر ما أعرفه أنا». ولا شك أن مطران توخّى تفسير الكلمات من باب تسهيل الفهم وليس استخفافا بقرائه، فالواقع يؤكد عدم إتقان العرب لغتهم.
وينتقد المحافظين كما لو أنّهم منعوا العربية من التقدّم، ثمّ يعترف بتطورها: «قطعت اللغة العربية كل هذه المراحل وتقلّبت كل هذه التقلبات وهي لا تزال لغة يتفاهم بواسطتها ملايين البشر». فالمحافظة على أحكام اللغة لا تعني بالضرورة منعها من التطوّر. لقد رشق ميخائيل بسهامه الأدبَ القديم القائم على أوزان ناسيا أنّ الأمم الأخرى لا تتنكر لماضيها. وهل تنكر الإنكليز لأدب الأجداد، وأشعار شكسبير الموزونة تبقى في قمة مجدها بعد أكثر من 4 قرون؟ وهل نسي أن الأعمال الخالدة لا تموت، حتى إن كانت قديمة وقائمة على أوزان، وهو القائل: «الأثر الخالد لا يموت، والميت لا يعيش، ولا يخلد من الآثار إلا ما كان فيه بعض من الروح الخالدة» وفي موضوع اللغة بدت أفكارُه سطحيةً تفتقر إلى أدلة وشواهد واقتراحات مقنعة. وأكثر من ذلك، فقد ناقض نفسه بأن دعا إلى الكتابة بالعامية ولم يكتب بها. ولعلّ تعثّره يعود إلى عدم تخصّصه في اللغة. واللغة حقلٌ ملغّم رهيب، تُقبر فيه الادعاءات والأكاذيب. وقد تنفجر القنابل المستترة في ترابه تحت أقدام المغامرين في أيّ لحظة، وحتى بعد مئة سنة.
روائي ومترجم جزائري/ بريطانيا
مولود بن زادي
مقال جميل ؛ وأحسست أنك يادكتورمولود قد وجدت في ( شخصية وغربة ) ميخائيل نعيمة ؛ شيء من شخصيتك وغربتك.وأحسب أنّ التعامل مع قضية اللغة العربية الفصحى.( طبعاً ليست هناك لغة عربية فصحى ولغة وسطى ولغة دنيا ولغة مادون ذلك ) كما يتشدّق المتشدقون بل هي لغة عربية واحدة.وهناك لهجات متعددة بحكم الزمان والمكان والمزاج الخاص والعام ؛ كما كانت لهجات القبائل العربية متعددة اللفظ متفقة في المعنى رغم أنّ الأحرف كانت من دون نقط.أنما كانت لهجة قريش البطاح والحرم سيدة على القوم إذا اجتمعوا في الأسواق والحجّ الأعظم وبها أنزل أكثرمن(90% ) من القرآن الكريم ؛ مع ألفاظ من نواطق قبائل العرب ؛ منتخبة من لدن الله الحكيم ؛ رصّع بها آياته المنزلة بالحقّ ؛ لتكون للزمان قلادة جيد للحسان الحرائرالكرام ؛ وإلا ستنال على الأمة لهجات العلوج القواصم ؛ فيكون السبيّ على أمة العرب من الأعاجم من أرومة لغتها قبل أرضها بالاحتلال حين ضعف العزائم…وهذا ما كان ؛ منذ سقوط دولة بني العباس حتى اليوم.وأشيرتنبيهاً إلى أنّ مواجهة لغتنا بالتشائم كما هي الغداة مواجهة ديننا بالتهائم…فهم { انطلقوا إلى ظلّ ذي ثلاث شعب ؛ لا ضليل ولا يُغني من اللهب.إنها ترمي بشرركالقصر؛ كأنه جمالات صفر}( المرسلات 30/33).الأوربيون والمتوأربون من الشرقيين ؛ وجدوا أنّ ثمة مشكلة في اللغة اللاتينية التي بها كتبت الأناجيل ؛ في عصرالنزعة القومية للشعوب الغربية ؛ فثاروا على اللاتينية بتمجيد لهجاتهم المحلية
فكانت الاستقلالية البعيدة عن اللاتينية ؛ كما كان الانشقاق عن الكاثوليكية بالبروتستاتية ؛ نحن ليست لدينا مشكلة الانفصام والانفصال بين
اللغة العربية والقرآن ؛ هم يريدون الترويج افتعالاً أنّ هناك مشكلة فنفخوا بأبواق صورهم ليطلقوا ضرورة الكتابة بالعامية ؛ لزعزعة لغة القرآن
العربية عن الأجيال ؛ استكمالاً للاستعمارالثقافي والغزوالفكري.والآن نسمع من جنرالات الكيان الصهيونيّ من يسعى حثيثاً لجعل لغته العبرية
اللغة الأولى في الشرق الأوسط ؛ ويسمّيها لغة السّلام واللغة المقدّسة ؛ وهي لهجة شرقية حولوها إلى لغة ؛ وما تزال شبه مندّثرة.فلا يتعدى
من يرطن بها الملايين العشرة ؛ فيما اللغة العربية ؛ لغة أكثرمن ( 500 مليون) في آسيا وأفريقيا ؛ ومن خلفهم أكثرمن ( ألف مليون مسلم ) في العالم يقرأ القرآن ؛ ورغم ذلك يكابرون ويقولون هي لغة قديمة لا تصلح للحضارة المعاصرة.
تقديري أستاذي الرائع! أشكرك جزيل الشكر لاهتمامك وتشجيعك.
تعليق الأدبية اللبنانية رانيا محيو الخليلي في صفحتي بالفايسبوك، وقد أعجبني وهو بلا شك دليل على أهمية المقال ومدى تأثيره لأنه لا يهاجم ميخائيل نعيمة وإنما يرد عليه ويفند بعض ما ردده ويكشف تناقضه بالأدلة والشواهد من كتابه مع كامل التقدير لهذا الاسم الرائع، فارتأيت نشره هنا:
“أستاذ Mouloud Benzadi Écrivain ارتباطك بميخائيل نعيمة وثقه الانغماس الأدبي الأول وهذا دليل أصالتك.
تحليلك المنطقي والموضوعي لما كتبه ميخائيل نعيمة في “الغربال” وإن انحسر في مجال اللغة لكنه بلا شك سيؤثر على تقبل مضمونه الأدبي.
أنا مثلك كان ميخائيل نعيمة قدوتي ليس بسبب الغربة وإنما بسبب الحرب، كنت أرى من خلاله صورا رائعة عن لبنان الذي لم أعرفه، كان بالنسبة لي حلم “الشخروب” الدائم.
الأدب هو رسالة ولا يمكن فصل التمسك باللغة عن التعبير بها. ألم تجمع الأكاديمية الفرنسية الأدباء لأجل متانة لغتهم وعملهم على إثرائها؟
لماذا لا يكون ارتباطنا باللغة العربية وثيقا ومتينا ومدعما بالأدب؟
مخالفة ميخائيل نعيمة لهذه الأواصر واعتراضه عليها وتناقضه فيها وفي غيرها من الأمور الأدبية التي اكتشفتها لاحقا، جعلته بالنسبة لي يتنحى عن مرتبة القائد ليتحول لنوستالجيا أدبية أحن إليها مع حنيني لأمور كثيرة فارقتني في حياتي.
كل تقديري لك ولموضوعيتك وأسلوبك الراقيين.
ملاحظة: سمحت لنفسي بإعادة نشر مقالك قي أكثر من مكان لأهميته.”
ارجوكم من هم مؤيدي ومنتقدي كتاب الغربال لميخائيل نعيمة