الكرامة أولاً، والشعر ثانياً

حسب شهادات الشعراء والكتّاب المغاربة الذين حضروا مهرجان «تويزا» للثقافة الأمازيغية في طنجة ما بين 11 و14 أغسطس/ آب الجاري، فإنّ الدورة 12 الأخيرة التي حملت شعار «دفاعاً عن الطبيعة» كانت الأسوأ في تاريخ هذا المهرجان الدولي، الذي يعرف حضورا كبيراً من أهل الفن والأدب، ويحظى بمتابعة إعلامية واسعة، حيث اشتكى هؤلاء من سوء المعاملة. وضيق القاعات التي أقيمت فيها الندوات. والكيل بمكيالين بخصوص التعويضات المادية، وإن كانت النقطة الأخيرة هي التي أفاضت الكأس وعرّضت إدارة المهرجان لانتقادات حادة لازالت تداعياتها متواصلة في الصحافة الإلكترونية وفي مواقع التواصل الاجتماعي.
وليست الشاعرة إيمان الخطابي وحدها من تحدّثت عن الموضوع، وكتبت على صفحتها في «الفيسبوك»: «أفكر جدياً في مقاطعة المهرجانات والملتقيات الشعرية التي تقام هنا في المغرب، وتتسبب بإهانة للشعراء والكتّاب وتسيء للصورة التي ينبغي أن تكون عليها الثقافة في بلادنا». في الوقت الذي خرجت الجهة المنظمة ببيان حقيقة للرأي العام، واعتبرت ما تمّ تداوله حول التعويضات المادية هو مجرّد «مغالطات»، وأنّ المهرجان دأب منذ دورته الأولى (2005)على توفير الإقامة وتذاكر السفر للمشاركين ليس أكثر، من دون أن يجيب البيان، الذي اتّسم بالتعميم، على باقي النقاط التي نقلتها، بالأرقام والأسماء، الصحافة التي حضرت الى عين المكان، وأخذت التصريحات من المشاركين في تنشيط الندوات والأمسيات الشعرية.
وما وقع في مهرجان «تويزا» مؤخراً، هو صورة نمطية ومقرّبة بـ«الزوم» لما يجري في أغلب مهرجانات الشعر والقصة القصيرة التي تُقام دوراتها في أعالي جبال الوطن وواحاته، حيث تداس فيها كرامة صنّاع الوجدان بحوافر صيارفة الثقافة. ويخضع تعويضهم لمزاج المنظمين ولتأثير وبريق الاسم. وتتمّ معاملة المشاركين كما لو أنّهم فرق كرة القدم مقسّمة إلى الدرجة الأولى والدرجة الثانية وقسم الهواة.. وسبق لي، قبل عام ونصف العام، أن كتبتُ عن أحد مهرجانات الشعر الذي أقيم في مدينة الخميسات (شمال المغرب) عندما حضرتُ أمسيةً شعرية ورأيتُ أحدهم، وهو موظف في الداخلية وتنطبق عليه الأوصاف التي ذكرها ابن الجوزي في كتابه «أخبار الحمقى والمغفلين»، ينهر الشعراء كما لو أنّهم عبيد ويقدّمهم إلى الجمهور في مذّلة مقصودة لن تغسلها حتى مياه البحيرة التي قرأوا الشعر جوارها. وحينها غضب كثيرون من كلامي. ووصل الأمر بأحدهم أن هدّدني برفع دعوة قضائية ضدي بتهمة الإساءة الى سمعة المهرجان. لكن هل يفكرّ أمثال هؤلاء في سمعة الشاعر وكرامته ووضعه الاعتباري؟ ليس دائما، ولا أحد تقريباً .
لكن المشكلة تبدأ أحيانا مع بعض الشعراء أنفسهم، الذين لديهم شهية عالية لمضغ المذلة أكثر من مرّة والسكوت على كرامتهم. مثلما لديهم الاستعداد الفطري للسفر حتّى إلى تورابورا مشياً على الأقدام أو زحفاً على الأيدي في قصيدة محمود درويش، والقبول بمن يأخذ لهم صوراً من زوايا مختلفة وفي أوضاع مخجلة مقابل حفنة من المال لا تكفي حتى لشراء حذاءٍ يليق بمقامهم. أما بعض الشاعرات اللواتي دأبن على حضور دورات مهرجانات بعينها، فيستطعن أن يتحدثن عن أشياءٍ أخرى أحسن منّي . وليس جديداً، إن قلنا أنّ أغلب هذه المهرجانات لا تقدّم صورة حقيقية عن الشعر المغربي، باعتبار أنّ تصوراتها وبياناتها الختامية لا تمثل إلا وجهة نظر القيمين عليها. ولأنّ تاريخها ارتبط بأسماء بعينها، حتى صار لكل مهرجان ضيوفه الأوفياء الذين يذهبون اليه سنوياً، وبالقصائد نفسها أحياناً، كما لو أنهم ذاهبون إلى رمال مرزوكة الجنوبية لطمر أجسادهم البردانة. والغصة نفسها والألم نفسه، عندما يأتي الحديث عن جوائز الشعر التي ترعاها بعض المؤسسات الثقافية في المغرب حيث تتلاعب لجن التحكيم بالنتائج. وأحيانا يتم الحسم فيها قبل قراءة الأعمال المرشحة. وليست أوّلها ولا آخرها ما جرى خلال جائزة المغرب للشعر السنة الماضية (2015) التي تمّ حجبها بعدما تسرّب عمل اللجنة إلى الصحافة، وتحرّكت الهواتف لترجيح كفة هذا الشاعر أو هذه الشاعرة. واحتدّ الخلاف بين أعضائها الذين دخلوا في حرب داحس والغبراء. وبينما تتعرض مثل هذه التلاعبات إلى وابلٍ من الانتقاد في الغرب ويتم التشهير بالمتلاعبين وتفضحهم الصحافة من دون رحمة وتُسحب الثقة منهم وينفضّ القراء من حولهم، إذا كان منهم من يكتب عموداً في جريدة أو يحاضر في مدرج جامعة، فإنه مازال في الكثير من البلاد العربية من لا يستسيغ مثل هذا الكلام وهذه النبرة الحادة ويلوذ بالصمت حيال كلّ هذه البقع السوداء التي تسيء إلى الثقافة عموما أكثر مما يسعى هؤلاء إلى رفع لوائها من خلال مهرجانات وجوائز سنوية تُصرف عليها أموال طائلة ، التي غالباً ما تقتص من ميزانيات العمالات والأقاليم ومن جيوب دافعي الضرائب.

كاتب مغربي

 

الكرامة أولاً، والشعر ثانياً

حسن بولهويشات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية