مع التطورات المهمة التي يعيشها العالم حالياً على صعيد السياسة والاقتصاد، تكتسب الدراسات ضمن حقل «ما بعد الاستعمار» أهمية متزايدة، فعلى عكس ما كان يتصور الناجون الأوائل من قبضة الاستعمار، أو الاستخراب بالأحرى، فإن المجتمعات المستقلة، وبعد أكثر من نصف قرن على تحقيقها الخلاص المنشود، لم تتجه نحو التوحد والانصهار، بقدر ما اتجهت في كثير من الأنحاء، إلى الانقسام والتفكك والارتداد لحدود القبيلة أو الجهة، بل إنه لم يسلم من هذه الردة حتى أولئك الذين توحدوا في سبيل مقاومة المستعمر، والذين كنا نظنهم صفاً واحداً، فما لبثت الصراعات والانقسامات أن تناوشتهم بمجرد خروج المحتلين، ما يطرح سؤالاً حول ما إذا كان توحدهم الأول ذاك مجرد توحد تكتيكي لا يخفي في طياته إلا الكثير من عوامل الفرقة والاختلاف التي يعمد إلى تأجيلها حتى حين.
من أجل معرفة ذلك لابد من العودة لمراجعة تاريخ المستعمرات، وكيف كانت تحكم. البعض يقللون من ذلك باعتبار أنه مر وقت طويل على «الحكم الوطني» وأنه لا يمكن لوم الأجنبي الآن على أخطاء ارتكبها قبل قرن من الزمان، واتهامه بأنه سبب في أوضاع عبثية حالية، بل إن ذلك يبدو تهرباً من المسؤولية وبحثاً عن مشاجب هي في الغالب غير واقعية.
لكن الرد على هؤلاء بسيط، فيكفي أن نتفق على أنه لم يكن من مصلحة أي محتل أن تتوحد المجتمعات داخل مستعمراته، أو أن يعمد إلى تشكيل هويات متجانسة، لأن هذا، كما هو بديهي، يعرّض وجوده للخطر ويشكل تهديداً أمنياً ضده. أيضاً لعلنا نتفق على أن المحتل لم يخرج قبل أن يضع مساهمة ملموسة في واقع ومستقبل البلاد، عبر تشكيل النخب القائدة وعبر رسم مخطط ذهني يشكل أساس الدولة المرجوة وهو المخطط الذي ستسير خلفه تلك النخبة بلا وعي، خالطة بين الحداثة بمعنى مواكبة التطورات العلمية، والاستفادة من المعارف الغربية، من أجل تطوير الصناعة والزراعة، وصولاً إلى استقلال حقيقي، وبين التغريب الذي هو مجرد استيراد لكل شيء ابتداءً من السلع والخدمات ونهاية بالأفكار والمفاهيم والأطر المعرفية.
هناك مأزق نفسي، ربما يكون المارتنيكي فرانز فانون قد سبق غيره في التعبير عنه في كتابه، الذي يلخص عنوانه كل شيء «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء». هذا المأزق هو الذي يجعلنا نظن أن الخير كل الخير في ما جاء من الغرب، الذي هو للمفارقة العدو الذي كان يحارب بشدة حتى الاستقلال، وهو الذي يجعلنا نقلل من شأن الأفكار الأصيلة المستمدة من الهوية الحقيقية، التي حاول المستعمر خلال العقود التي جثم فيها على صدور الشعوب أن يطمسها.
تستقل دولة إفريقية مثلاً فتبحث عن الديمقراطية، ليس فقط باعتبارها وسيلة نموذجية للحكم، ولكن أيضاً للوجاهة التي تكتسبها الدول التي تعلن عن نفسها كدول ديمقراطية في النوادي العالمية، لكن المسألة في إفريقيا تبدو معقدة قليلاً، فليس الأمر هو مجرد مرشح منطلق من حزب يعرض أفكاره للجمهور الذي يتوجب عليه أن يختار من بين البرامج والأفكار، ولكن كل شيء يسير على نحو مختلف باختلاف السياق. المرشح هنا هو من النخبة لكنه منتمٍ في الغالب لقبيلة قد تكون قد اختارته لتمثيلها في مقاعد وزارية أو برلمانية، والذي يحدث هو أن أحداً لن يهتم بقراءة برنامجه أو معرفة ما سيقوم به بالفعل. ستصوت قبيلته له، وكذلك ستفعل القبائل الأخرى، فيكون الفائز في هذه الحالة هو المستند لا على شعبية كبيرة أو برنامج مقنع، ولكن المنتمي لقبيلة مؤثرة أو متحدة مع غيرها.
لماذا يجب الاحتكام فقط إلى الديمقراطية الغربية دون غيرها؟ ألا يمكن الوصول إلى نموذج آخر من الحكم الرشيد، بما يتناسب مع هوية ورائحة المكان؟ هذه الأسئلة كانت مطروحة بكثافة في الفترة التي تلت الاستقلال، خاصة بعد الخيبة التي شعر بها المثقفون، أمام ذلك التشويه الذي حظيت به الممارسات الديمقراطية على نحو ما ذكرنا، ما جعلها تبدو أشبه بمهزلة لا جديد فيها ولا تعبر بأي شكل عن إرادة الشعوب. انتقاد الديمقراطية لم يقتصر على دول العالم الثالث المستقلة حديثاً فقطـ، ولكننا نجد له الكثير من الآثار في الكتابات الغربية، التي تعتبر أن طريقة الوصول إلى السلطة والاستفتاء على قرارات مصيرية في بلد نموذج كالولايات المتحدة مثلاً، ليست بأي حال طريقة تعبر عن الصوت الحقيقي والرغبة الخالصة لغالب الشعب الأمريكي، وأن الأمر يختلط في كثير من الأحيان بتأثيرات المال والدعاية والنفوذ.
في العالمين العربي والإسلامي تم التشويش على هذه النقاشات الباحثة عن «ديمقراطية مشرقية» معبرة فعلاً عن أصوات الناس من قبل ثلاث جهات على الأقل، أولى هذه الجهات هي الدول الغربية نفسها، فرغم علم هذه الدول أن هناك واقعا مزيفا في هذه الدول التي ظاهرها ديمقراطي، في حين يبقى باطنها وحقيقتها مفعمين بالاستبداد، إلا أنها تصر على بقاء هذه الديمقراطية واستمرارها واعتبار أن من يدعو لاستبدالها إنما يخرج عن إطار الشرعية.
أما الجهة الثانية فهي التيارات الإسلامية، وهنا علينا أن نفرق بين مجموعتين بداخل هذه التيارات، المجموعة الأولى هي الحركات السياسية التي تملك بعض الخبرة والتي تحاول أن تقدم، مع انتقادها للتجارب الديمقراطية، بدائل يمكن الأخذ بها في مزاوجة بين الأصول الشرعية واحترام خيارات الشعب على الطريقة الغربية. أما المجموعة الثانية فهي مجموعة تراوح في مكانها الأول الذي ينحصر في كون الديمقراطية هي «التحاكم للشعب» وأن هذا التحاكم يتناقض مع مبدأ الحاكمية المطلقة لله، ما يدخل الديمقراطيين والمشتغلين في هذه الدائرة جميعاً تحت طائلة الكفر. المفارقة اللطيفة هنا، التي يجب ألا تمر بدون تعليق، هي أن هذه التيارات التي تكفّر المطالبين بالديمقراطية والمشتغلين بها أو عليها على سبيل التطوير، لا تمتد صرخات تكفيرها للحاكم نفسه الذي هو رأس النظام السياسي وراعي الديمقراطية، سواء كانت حقة أو مزيفة، فهي تعتبر أن الخروج عليه أو حتى التشويش على قراراته لا يجوز مهما بدت بعيدة عن العقيدة التي يؤمنون بها، أما المساكين من عامة الشعب، خاصة المنتمين لتيارات الإسلام السياسي فسيكونون هم المستهدفون أكثر من غيرهم بهذا التكفير الذي يصل في بعض الأحيان حد تنفيذ حكم الردة عليهم.
أما التشويش الثالث فيأتي من قبل الحاكم المستبد الذي يستفيد من التشويشات الأخرى، موظفاً إياها بما يخدم مصلحته، فهو يستفيد من الدول الغربية التي اعترفت به كسلطة شرعية، لديها وحدها الحق المطلق في استخدام القوة وتأمين مواطنيها بما تراه مناسباً، وهو يستفيد كذلك من تلك التيارات الدينية ذات الموقف المزدوج الرافض للديمقراطية من جهة، والمتحالف مع الحاكم وحزبه السياسي من جهة أخرى، بل يزداد المشهد عبثية حينما يقوم ذلك التيار الرافض للتحزب بإنشاء حزب سياسي تكون له وظيفة الرافعة أو السند للنظام السياسي المشوه القائم.
هذا هو الواقع القاتم الذي نعيشه. لحسن الحظ فإن هذه الصورة ليست منطبقة بشكلها هذا على الجميع، فهناك دول مضت مسافات متقدمة في سبيل الوصول إلى طريقة مثلى للحكم والإدارة وهي، على قلتها، دول يمكن الاهتداء بها والاستفادة من تجربتها.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح