في صيف 2013، تحديدا بعد مذبحة رابعة 14 آب / أغسطس ، أردت الاطمئنان على ولديي المقيمين في العاصمة الألمانية برلين والبقاء معهما لبضعة أيام.
آنذاك تمنيت أن يكون الخروج من مصر انسحابا من هيستيريا الدماء والكراهية والعقاب الجماعي والتخوين التي أطلت من كافة جوانب المجتمع ووظفتها السلطوية العائدة للحكم كوسيلتها لفرض سيطرتها الأحادية وقمع كل صوت معارض. تمنيت أن يكون الابتعاد لبضعة أيام وسيلتي أنا لإنقاذ إنسانيتي من أسر الهيستيريا، وللتفكير الهادئ فيما يمكن لي فعله دفاعا عن التحول الديمقراطي الذي انقلبت مصر عليه وعن حقوق الإنسان والحريات التي بدأت انتهاكاتها فور عودة السلطوية للحكم ونزعت النخب الليبرالية واليسارية التي ساندت الانقلاب على الديمقراطية إلى تبريرها أو الصمت عنها أو التعامل معها بمعايير مزدوجة.
غير أن رحلة الطائرة بين القاهرة وبرلين تحولت في ذلك الصيف الدامي إلى اصطدام مباشر بما أحدثته الهيستيريا بالناس وبي، اصطدام كان أشبه ما يكون إلى سياق التجارب المعملية التي تختبر بها ظاهرة محددة وتعزل عنها كافة الظواهر الأخرى التي قد تؤثر فيها بحثا عن التحليل الموضوعي والنتائج الدقيقة.
خلال ساعات الطيران بين المدينتين (أربع ساعات)، كانت مجموعة المصريات والمصريين الذين كانوا على متن الطائرة وقرروا الاشتباك الجماعي في «حوار» عن شؤون البلاد وأحوالها معزولة على نحو مؤقت عن مشاهد الدماء والعنف في العديد من مناطق مصر، وعن «أذرع غسل الأدمغة» الإعلامية التي أدارتها السلطوية العائدة للحكم لتبرير جرائمها، وعن الجنون والصخب اللذين أنتجتهما أحاديث الإخوان الإرهابيين ونشطاء حقوق الإنسان الخونة والطابور الخامس الذي يمثله كل من يدافع عن الديمقراطية ويرفض تجاهل المظالم والانتهاكات حين تطول المختلفين فكريا معه. إلا أن العزلة المؤقتة لمن كانوا لبضع ساعات بين الأرض والسماء لم ترفع استعدادهم للنقاش الموضوعي، أو قابليتهم للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، أو تدفعهم إلى الامتناع عن إطلاق الاتهامات الجزافية باتجاه معارضي السلطوية، أو تحثهم على التفكير في التداعيات المحتملة لعودة السلطوية إلى الحكم وهيمنة المكون العسكري-الأمني على مؤسسات الدولة والمجتمع وتسفيه النخب المدنية واستتباعها كأبواق لتبرير جرائم السلطوية وتهجير المواطن من الفضاء العام قمعا وتعقبا دائمين، أو تشجعهم على قراءة الإرهاب الذي كانت جرائم عصاباته تتوالى كشر مجتمعي يتعين مواجهته بمزيج من الأدوات العسكرية والأمنية ومن الأدوات التنموية واحترام حقوق الناس. لم يحدث شيء من ذلك أبدا.
ولأن «الحوار» الذي دار خلال ساعات الوجود بين الأرض والسماء تداخلت به الأصوات والكلمات وتبادل كل من شارك به أداء وظيفة تعويق الآخرين عن الطرح المنظم للقناعات أو الأفكار، فقد اختزنته ذاكرتي «كحوار صاخب لطرشان في مكان مغلق» أظهر به كل من شارك به حقيقة تحوله إلى ترس صغير أو كبير في ماكينة الهيستيريا المرعبة. اختزنت ذاكرتي أيضا بعض العبارات التي ترددت وكانت استنساخا مباشرا للعبارات الجنون والاتهامات الجزافية والعقاب الجماعي التي تعالت في الفضاء العام.
أنتم تدافعون عن مجرمين وإرهابيين. الجيش أنقذ البلاد من الخونة. الإخوان إرهابيون وأرادوا بيع البلاد للأمريكيين والغرب ولتركيا وقطر.
لا، أنتم انقلبتم على رئيس منتخب لأنكم تعشقون العبودية. لا تريدون الحرية وتخافون منها ومن صناديق الانتخابات لأن الإخوان يفوزون دائما.
ما حدث لا يوصف إلا كانقلاب وخروج على الديمقراطية، ورابعة مذبحة لا يمكن الصمت عليها بغض النظر عن معارضتي لرئاسة الدكتور محمد مرسي ومطالبتي بانتخابات رئاسية مبكرة. وما يحدث الآن سيجعل من المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية حكام البلاد مجددا.
ألهذا تسافر الآن إلى ألمانيا؟ لكي تشوه ثورة 30/6 الشعبية ولكي تدعي أن إنقاذ البلاد من الإخوان والإرهاب كان انقلابا؟ ألهذا تذهب إلى الغرب أنت وغيرك من عناصر الطابور الخامس؟
أحترم موقفك مما حدث ودفاعك عن دماء الناس أمام الحرس الجمهوري وفي رابعة وغيرهما، أنت الآن تظهر التزامك الديمقراطي الحقيقي. لكن ألم تكن جالسا في جبهة الخراب التي أسميتموها جبهة الإنقاذ؟
أردت الانتخابات الرئاسية المبكرة وليس تدخل الجيش في السياسة. وسجلت اختلافي مع الجبهة. وبالمناسبة لسنا طابورا خامسا ولا يجب تخوين من يختلفون في الرأي ويغردون خارج السرب.
لا، أنتم جميعا تتآمرون على مصر، إخوان وطابور خامس. الجيش أنقذنا منكم، وسينقذنا من الإرهاب ومن التراجع الاقتصادي.
في حوار الطرشان بين الأرض والسماء، تعددت العبارات المستنسخة من ظواهر الجنون والصخب والاتهامات الجزافية والعقاب الجماعي التي كانت تحاصرنا في مصر في ذلك الصيف الدامي 2013. انتهت ساعات الطيران بين القاهرة وبرلين، ومجموعة المصريات والمصريين التي شاركت في «الحوار» لم تنفعها عزلتها المؤقتة في التخلص من التداعيات الكارثية للهيستيريا التي أمسكت بالبلاد.
انتهت ساعات الطيران، انتهت الرحلة، ذهب المسافرون إلى حال سبيلهم، اختفت أصداء عبارات الجنون التي ترددت في المكان المغلق، في المعمل الطائر. غير أن مصر، وبعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات إضافية، مازالت تراوح في ذات المكان ولا تتبدل أحوال ناسها. باتت مصر ضحية لماكينة الهيستيريا المرعبة التي أطلقت على المواطن والمجتمع والدولة في صيف 2013، وأضحى ناسها في معاناة مستمرة من انهيارات اقتصادية واجتماعية لا تتوقف وجنون وصخب وكراهية وإرهاب تنسينا مجتمعة الحق في الحياة والأمل في غد أفضل.
٭ كاتب من مصر
عمرو حمزاوي
سوف لن ينسى الشعب المصري تلك الدماء الزكية الطاهرة التي أريقت برابعة وغيرها وستكون حافزاً للمصريين للتوحد من جديد ضد العسكر المارق
ولا حول ولا قوة الا بالله
لا تتحدث عن الإنقلاب علي الديمقراطيه لأنك يا عضو جبهة الإنقاذ كنت عصواً فاعلاً فيه، و لا تذكر المذابح لأنك يا عضو جبهة الإنقاذ تتحمل وزرها إلي يوم الدين.