يرفع عمار عمروسية كوبا من الماء ويقول في برنامج تلفزيوني مباشر بثته «القناة الرسمية» في تونس ساعات بعد الإعلان عن تكليف يوسف الشاهد، قيادة وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية الجديدة: «هل رأيتم هذا الكوب من الماء الذي لا طعم له ولا لون ولا رائحة؟ انهم ومع احترامي للشاهد يريدون شخصا بمثل تلك المواصفات، أي يريدون موظفا عند بعض المتنفذين وعند العائلة لا أكثر ولا أقل». لكن قيادي الجبهة الشعبية الذي استرسل بعد ذلك في التذكير بمواقف الجبهة ومآثرها وكيف انها نبهت وحذرت مرارا وتكرارا كل الحكومات التي ظهرت في السنوات التي تلت هروب بن علي وأنذرتها بانها تسير نحو الفشل الذريع ما دامت لا تعمل بنصائحها وارشاداتها الغالية والثمينة، لم يذكر في المقابل أي مواصفات أو أي خصال شخصية مطلوبة في الرجل الذي سيمسك مفاتيح قصر القصبة.
هل يفضله ثوريا من أحفاد غيفارا يقف بوجه الامبرياليين ويشن عليهم حرب استنزاف واسعة لا هوادة أو صلح فيها، أم اشتراكيا لينينيا يمتنع عن سداد الديون ويوقف الاقتراض الخارجي للدولة ويقطع علاقاتها وروابطها بصندوق النقد الدولي وباقي المؤسسات الرأسمالية الأخرى ويعول في النهاية فقط على تحالف العمال والفلاحين حتى ينتشل الاقتصاد من كبوته وأزمته الطاحنة والعميقة؟ أم انه يريده فقط وببساطة مجرد شخص قوي الشكيمة صلب الإرادة، قادر على ان يقف في وجه من وصفهم بالمتنفذين من خارج العائلة وداخلها ويقول لهم بالفم المليان لا؟
لقد تحولت كلمة «ولدك في دارك» التي قالها في جلسة سحب الثقة من حكومة الصيد إلى ما يشبه الشعار الشعبي البراق الذي جلب اهتمام واعجاب الكثيرين على شبكات التواصل الاجتماعي.
وحتى بعدما تم الكشف رسميا عن اسم رئيس الحكومة القادم، فقد رأى البعض ان الشعار لا يزال صالحا وقادرا على التعبير بدقة عن طبيعة المرحلة الحالية في تونس «لان الشاهد يحكم بالنيابة عن حافظ قائد السبسي ابن الرئيس» مثلما قالت النائبة سامية عبو، فيما يرى آخرون انه صار مطلوبا ان تعدل الصيغة بعض الشيء وتصبح «قريبك في دارك» لتنسجم أكثر مع واقع الأحداث رغم ان رئيس الحكومة المكلف نفى بشدة أي قرابة له بالباجي قائد السبسي، وقال في تصريحات إعلامية أعقبت لقائه الأربعاء الماضي به «لا قرابة لي برئيس الجمهورية فلا هو صهري ولا هو نسيبي ولا هو عمي ولا هو خالي وقد بدأت التعامل معه فقط بعد الثورة».
لكن بعيدا عن تفاصيل الروابط التي جمعت أو تجمع الرجلين وهل انها انبنت بالفعل على معايير الكفاءة المهنية وحدها أم على المصاهرة العائلية فحسب، فان التجارب القريبة والبعيدة دلت على ان اطلاق الشعارات لا يكفي لصناعة التاريخ أو تغيير خط سيره. كما انه يبدو واضحا أيضا ان سيل الانتقادات الجارفة التي قابلت بها الجبهة الشعبية ومعارضون آخرون تسمية الأربعيني على رأس الحكومة الجديدة لن يقف حجر عثرة أو يعطل وصوله في وقت لاحق إلى قصر القصبة إذا ما حصل على ثقة البرلمان بالطبع. ومن المؤكد ان الناس ستنسى بسرعة قصة النسب العائلي وستهتم في الشهور الأولى لعمل الحكومة وفي الأساس بأمرين اثنين وهما: الطريقة التي سيتصرف بها الوافد الجديد مع كم المشاكل والأزمات الرهيبة الموجودة في البلاد، ثم الاسلوب الذي سيدير به فريقه الحكومي المكون من أكثر من لون وطيف سياسي والذي قد يتفق على الخطوط والسياسات العامة، لكنه سوف يختلف بالتأكيد في الكثير من التفصيلات. ولعل ما يجعل الطريق السياسي معبدا نسبيا أمامه هو ان الحزبين الكبيرين أعلنا انهما يقفان إلى جانبه ويسندانه بقوة، فحركة النهضة التي كانت تفضل ان يستمر الصيد في مهامه حتى تتم الانتخابات البلدية على الأقل، عادت لتقبل في النهاية استبداله تحت ضغط واقع متحرك بشاب بدا في نظرها الأفضل من بين مرشحين آخرين عرضهم عليها الباجي قائد السبسي، وما تبقى من حركة نداء تونس يبدو انه استعاد بالشاهد وهو قيادي بارز في الحركة، زمام مبادرة ضاعت من بين يديه وفقدها أيام الصيد وهو يستعد لاقتناص الفرصة واسترجاع جزء من البريق والرصيد الشعبي المتراجع في غمرة الصراعات الداخلية التي عصفت بالنداء قبل شهور. ولكن الرئيس المكلف يعلم أيضا ان ذلك الدعم ليس مفتوحا أو خاليا من ضمانات وتطمينات قد تطلب منه مقابل منحه المظلة السياسية الحزبية ويعلم أيضا انه سوف يجتاز اختبارا صعبا ودقيقا قد يدمر مستقبله السياسي باكرا أو يسمح له بالتحليق عاليا وتوسيع أحلامه وطموحاته في المستقبل. لقد قال في بداية الكلمة القصيرة التي ألقاها أمام الصحافيين في أعقاب تسلم رسالة التكليف «اننا ننطلق اليوم في مرحلة جديدة تتطلب منا جميعا مجهودات وتضحيات استثنائية وجرأة وشجاعة ونكرانا للذات وحلولا تخرج عن الأطر العادية» وهو يدرك جيدا ان التونسيين لن ينتظروا وقتا طويلا حتى تتضح الصورة أمامهم ويتحققوا ان كانوا يعيشون بالفعل في مرحلة جديدة أم لا. فمع اقتراب الخريف والشتاء المقبلين سوف تحتد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وتتصاعد وتعود الاحتجاجات والمطالبات إلى سالف عهدها وليس معروفا حتى الآن ان كان باستطاعة السلطات جني مكاسب كبيرة من وراء المؤتمر الاقتصادي العالمي للاستثمار المزمع عقده في تشرين الثاني/نوفمبر والذي قد يعد طوق نجاة للحكومة الجديدة أم ان كل ما ستخرج به لن يتعدى حزمة الوعود المعروفة بالدعم والاسناد العاطفي لتجربتها الديمقراطية الباهرة؟ ومما لاشك فيه ان الشاهد يملك فكرة عن كل تلك الصعوبات ويرى ان البلد بحاجة لحلول «غير عادية» وهنا بالتحديد جوهر التكليف الذي منحه له الرئيس قائد السبسي. فهو شاب مغمور حاصل على تعليم جيد ولم يعمل مع النظام القديم ولا يملك خبرة سياسية وينتمى لحزب الرئيس ومحل ثقته، وهي مواصفات تكفي بنظر من اختاره للاقدام على اتخاذ قرارات ترددت حكومة الصيد في اتخاذها. كيف سيتصرف وهل تكفي مصارحته الموعودة للشعب باقناع التونسيين انهم قادمون على سنوات صعبة وان الحكومة الجديدة لا تملك العصا السحرية التي ستحول حياتهم بين ليلة وضحاها إلى الأفضل؟ لقد قال خلفه رئيس حكومة تصريف الأعمال في نيسان/ابريل الماضي في حديث إلى بعض الإعلاميين ان» تونس يلزمها مال قارون وصبر أيوب» وها ان الرئيس المكلف يتحدث الآن عن حلول أخرى قد توجد خارج مال قارون وصبر أيوب. لكن الاشكال الحقيقي هو انه بقطع النظر عن طبيعة تلك الحلول وكلفتها وتقبل الناس لها، فان وجودها سيكون مرتبطا بشكل وثيق بأمرين مهمين وهما، حجم المصالح والتصورات الخارجية لمستقبل الإقليم على المدى القريب والمتوسط على ضوء تعقد الأزمة الليبية والانخراط المباشر والمكشوف لأكثر من جهة دولية فيها، والغموض النسبي للأوضاع في الجارة الكبرى الجزائر ثم قدرة الحكومة الجديدة على مواجهة اخطبوط الفساد المتمدد في كامل مفاصل الدولة وجدية الحرب التي أعلنها الشاهد ضده ضمن ما وصفها بأولوياته الخمس.
وفي كل الأحوال ومتى استقرت الأمور وانتهت مشاورات تشكيل الحكومة ثم فازت بثقة البرلمان واستلمت رسميا مهامها، فان قسما كبيرا من التونسيين ممن فقدوا كل أمل بالتغيير والاصلاح لن يترددوا في التصريح بعد أيام ان ما جرى كان عبارة عن استبدال السيئ بالأسوأ وان كل الوجوه والحكومات القديمة والجديدة صارت شبيهة بكوب الماء الذي رفعه نائب الجبهة الشعبية في البرنامج التلفزيوني، أي بلا لون ولا طعم ولا رائحة ملغين أي رغبة في التفكير في ان هناك أملا ولو ضئيلا في وجود احتمال ثالث خارج السيئ والأسوأ. أما اقرارهم ولو بجزء بسيط من المسؤولية عن تلك الحالة فهو يظل أمنية بعيدة وشبه مستحيلة قد لا تختلف كثيرا عن أمنيات رئيس الحكومة المكلف في خطابه الأربعاء الماضي بقصر قرطاج.
٭ كاتب وصحافي من تونس
نزار بولحية
تونس لن يصلح حالها إلا إذا وجد جهاز خاص على غرار الذي أ وجده بورقيبة لمقاومة العصابات أيام حكمه. إذا لا بد من جهاز مدرب جيدا يقطف رؤوس الفساد واحد بعد الآخر وتصفية كل خائن للوطن يستثمر الفساد بشتى أشكاله لتخريب هذا الوطن العزيز تونس. تونس لا بد أن تحذو حذو إيطاليا للخروج من مستنقع الفساد الذي أتى على أركان الدولة. اقتفاء أثر كل فاسد مهما كان حجمه صغيرا كان أم كبيرا للقضاء عليه حتى وإن لجأ إلى الخارج يجب ملاحقته دون تقديمه للقضاء. وبذلك تسلم تونس من الخونة. هل هناك في تونس من تهمه تونس. إذا وجد من هو غيور على تونس عليه بالتعاون مع إيطاليا التي قطعت دابر اللفساد لما ألم بها في وقت سابق.