جزيرة غوري السنغالية تستغيث: «أنقذوا ذاكرة العبيد»

حجم الخط
0

جزيرة غوري، السنغال – «القدس العربي»: على بعد كيلومترات فقط من العاصمة السنغالية داكار، تطل من اليابسة لأي زائر للمنطقة بوابات «العار والخزي» فاضحة بألوانها التعيسة الوجه البشع للإنسانية المتوحشة، وهي تلوح بما تخزنه في أقبية بيوت مظلمة من أحزان، وتستغيث بصوت به حشرجة مكتومة علَّ يسمع نداءها ضمائر من تبقى من الأحياء، ويهبُّوا لأجل مسح بعض مما اقترفه أجدادنا من مجازر في حق إخوانهم، ويضع سدا أمام اندفاع أمواج عاتية تكالبت مع غدر الزمن في محاولة يائسة لمسح ما اقترفته هي الأخرى من سَوْءات، وتنعتق من أنين أرواح بريئة غمرتها في قاع المحيط.
جزيرة غوري، كانت إلى وقت قريب مصدر تجارة الرقيق، ومكان نقلِ أبناء القارة السمراء من مواطنهم ومساكنهم، بعد إختطافهم من عالمهم، لتحويلهم إلى قارة أخرى في الضفة المقابلة لها. تقع الجزيرة على بعد ثلاثة كيلومترات فقط من العاصمة السنغالية دكار، تعاني حاليا من خطر إبتلاع مياه المحيط ليابستها، وتدمير الأمواج العاتية معالم وبيوت، يطالب سكان المدينة العالم بضرورة تقديم المساعدة لإنقاذها والمحافظة عليها، حتى لا تنسى البشرية يوما جزءا من تاريخها الأسود.
تبلغ مساحة الجزيرة التي شكلت في القرن الخامس عشر ولغاية القرن التاسع عشر المركز الأكبر لتجارة العبيد في الساحل الأفريقي، 17 هكتارا، استوطنها في عام 1444 البرتغاليون، ثم بيعت للهولنديين عام 1617، وبعد ذلك تصارع الإنكليز والفرنسيون فيما بينهم لإحكام سيطرتهم عليها. تناوبت القوى الإستعمارية السيطرة على الجزيرة ما يقرب من 17 مرة، ما جعل هندستها تتميز بالتناقض بين أحياء العبيد المظلمة ومنازل تجار الرقيق الأنيقة والفخمة والراقية، وأعلنتها منظمة اليونيسكو عام 1978 من مواقع التراث العالمي.
وصلتُ اليابسة رفقة مجموعة من السياح الأجانب من عدة دول حضروا المكان للوقوف على حقيقة الوضع الذي تعاني منه الجزيرة بعد اجتياز البحر على متن عبارة أنيقة بطوابق عدة تلوح من أعلاها مناظر المدينة. بوبا محمد كان في استقبالنا في المرفأ، ليكون دليلنا السياحي، وبشعره المجعد الذي جعله يشبه بوب مارلي الذي يعشق أسلوبه في الحياة، شرع في تقديم معلومات تاريخية عن المكان الذي استعمل لسرقة العبيد والمتاجرة بهم.
دخلنا بعد أن مررنا بشوارع ضيقة يعاد تزيينها، مباشرة إلى أحد البيوت الاستعمارية الذي بني عام 1780م، وخصص كسائر المساكن المطلة على البحر لإحتجاز «المعتقلين» من الجنسين ومن جميع الأعمار قبل ترحيلهم. تقع البيوت في مساحات واسعة كان «الأسياد البيض» بوصف تلك الأيام يسكنون الطوابق العلوية، وتحت سقف استراحاتهم تقع أقبية مظلمة، ومنخفضة بالكاد تسمح بمشي رجل بالغ دون أن يتعثر في العتمة. في هذه المساحات الضيقة السيئة يحتجز شباب ونساء وأطفال وحتى كبار السن، يمضون فترات من عمرهم في هذه المخازن، في إنتظار مصيرهم الغامض ونقلهم إلى بواخر وسفن تصل الميناء عبر قوارب صغيرة تقف حتى سور البيت. وتنقسم الدار إلى عدة عنابر لا تتجاوز مساحتها 6.76 متر مربع، أحيانا تفصل عنابر النساء عن الرجال والأطفال، وأخرى يتم وضعهم جميعا محشورين في ردهة واحدة. الوصول أخيرا وبعد السير في سراديب كأنها متاهات ألعاب، يقود أرجلنا إلى «بوابة اللاعودة» وهنا تنتاب أي زائر في قلبه ذرة إحساس، مشاعر حزن تطلع عنوة من أعماقه، ولا يمكنه اختزانها في نفسه مطولا، أو وأدها حتى لا تفضحه أمام الجميع، وهناك من يصل حد ذرف دموع عند سماع الدليل وهو يروي بحرقة قصة أجداده.
بوبا بكل ما لديه من حقد تجاه ذلك الماضي للبيض الذين سببوا مآسي لا تزال مكتومة في مخيال الجميع حتى الآن، يجسد بحركات جسده وكأنه يؤدي مشهدا مونوغرافيا في مسرح الأوبرا، كيف كان يأتي أباؤه مقيدي الأيدي، وبأغلال ثقيلة تضيق على أرجلهم، متلاصقين بأجساد عارية لا تستر سوى القليل وآثار الضرب بسياط غليظة تترك جروحا على ظهورهم وصدورهم، ثم يوقّفون في صف واحد لا يكادون يفتحون أعينهم بعد أن يروا النور الذي افتقدوه لمدة طويلة، حتى يتفاجأوا بوجودهم مرتفعين بأمتار عن شاطئ صخري وسفن تنتظرهم هناك.
كان تجار الرقيق يستقبلون «الرجال السود والعبيد من نساء وأطفال» ليتم إطعامهم حتى يستعيدوا قليلا من وزنهم وعافيتهم، بعد رحلات عذاب أثناء نقلهم من مناطقهم الداخلية ومدنهم سيرا على الأقدام مقيدين، ومكبلين. في حال لم يستعد أحدهم صحته أو ظل سقيما، ولم يجدوا فائدة منهم كان بعضهم يلقى بهم من تلك البوابة ليغرق في قاع المحيط الذي تشمئز أمواجه من الآثام التي ارتكبت في حق البشرية. يؤكد مرشدنا أنه لا أحد يعلم بالتحديد عدد الذين نقلوا من تلك البوابات حينما شاهدناها من زاوية أخرى من الجزيرة، وكانت تراءت لنا من بعيد تلك البيوت مجتمعة وهي تتبرأ مما فعلته ملقية باللوم على أنانية الإنسان الأبيض الذي تسيد المكان بجبروته وبطغيانه وبمخزون الحقد الذي كان في قلبه، وبما تحمله نفسه من طمع بإرسال هذه الملايين إلى عالم آخر. بإشارة من يده إلى مسكن قصي يخبرنا بوبا عن لحظة وقوف الرئيس الأمريكي باراك أوباما مذهولا منذ أقل من سنة، أمام فاجعة الذكريات السيئة عن أقاربه الذين تصورهم نقلوا من هنا، لكن محدثي يعاتب الرجل الذي يرأس أكبر دولة في العالم، الذي لم يتحرك أي واحد منها لمساعدة جزيرته وإنقاذها من المصير المحتوم أمام إندفاع أمواج البحر لتقضي على ما تبقى من ذكريات يريد سكانها أن تبقى لتكون درسا لأي مستبد أو طاغية ولتكون شاهدة على مآس مستضعفين سلط عليهم عذاب شديد.
وتشهد الجزيرة مؤخرا إقبالاً كبيرا من السياح من جنسيات متعددة ومن أجناس مختلفة، لبوا نداء أهل البلد من أجل نقل استغاثتهم لحشد الدعم الدولي لإنقاذ سواحلهم التي تتآكل شواطئها بسبب زحف أمواج المحيط الأطلسي بكل ما يسببه ذلك من إختلال بيولوجي وتلوث بيئي. وقدمت حكومة داكار طلبات لعدة دول في العالم من أجل الأخذ بعين الاعتبار حيوية الأمر، ووضع خطة سريعة قبل أن يغدر الزمن بما تبقى من ذاكرة السكان الذين يحيون في فترات متواصلة طقوس إستحضار أرواح ذويهم حتى لا يفقدوا أثرها، وأغلبهم ينتشرون في مدن العالم وكثيرون لا يعلمون سوى النزر القليل عن جذورهم، أين هي بالتحديد، في هذه القارة التي تكالب عليها الإستعمار وسلبها كل خيراتها واختطف أبناءها ودمر إرثهم وزعزع استقرارهم، وبث الفوضى في كل مكان، على حد وصف بوبا الذي صار صديقي في ختام الزيارة، وهو يحمل في نفسه كمَّا ومخزونا من الروح الثورية على هذا البؤس الذي يراه أمام عينيه.
الجزيرة بالرغم من تلك الصورة المظلمة بسبب أوجاع الناس، تعتبر في الوقت نفسه مكاناً شاعرياً وملاذاً مثالياً لسكان العاصمة داكار لقضاء يوم من الراحة والإستجمام، ولملايين السياح الذين يحجون إليها على مدار العام. وبجنب أشجار الباوبات والنخيل، التي يتجول حولها الناس بأريحية لعدم وجود أي سيارة تلوث الفضاء، كانت سائحة أوروبية ببشرتها البيضاء وذرات ندى المحيط، تتلألأ على جسدها الذي يكشف عنه لباس البحر، تحاول بلطف التعبير عن مشاعر حزنها لشاب أفريقي من أبناء الجزيرة، وهي جالسة بجانبه، وكأنها تحاول بطريقتها أن تعوض له عما قاساه بسبب ما فعله أجدادها، وهم على مقربة من تمثال «حرية العبيد» الذي تعانق فيه فتاة أفريقية، قرينها الأفريقي الذي كسر القيود في تجسيد للواقع استوحاه فنان من جزر المارتينيك، أضاف لهذه التحفة طبلا كبيرا كان يقف عليه «العبدان»، وهي كناية على أن تلك الآلة الموسيقية المحبوبة لدى الأفارقة، كانت تستخدم طعما لهم لجذب الناس وخروجهم من مخابئهم، فيتم اختطافهم إلى رحلة الموت أو الاستعباد.
قبل مغادرة الجزيرة بكل تناقضاتها، وبكل صورها الجميلة، والبائسة، وذكرياتها السيئة، كان لابد من زيارة معلمين هامين أوصانا بهما مرشدنا.
المعـلـــم الأول الذي رغب بوبا أن نطلع عليه، مدرسة وليام بونتي القديمة التي تسمى أيضا مدرسة القادة، وهي مؤسسة تعليمية رائدة منذ بداية القرن العشرين وتشتهر بأنها صرح علمي خرّجت الآلاف من الكوادر والأطباء الذين حملوا على أكتافهم عبء تأسيس معظم دول غرب أفريقيا، من أبرزهم الرئيس الراحل لساحل العاج فليكس هوفوت بوني، وموديبو كيتا أول رئيس لجمهورية مالي، وحماني جوري أول رئيس لجمهورية النيجر، ومامادو جاه زعيم الإستقلال لجمهورية السنغال، إضافة إلى الرئيس السنغالي السابق عبد الله واد.
وهناك مسجد الجزيرة الوحيد الذي يعود إنشاؤه لعام1890، وتدعو اليونيسكو الدول العربية والإسلامية للمساهمة في ترميمه لما يمثله من إرث حضاري لسكان البلد.
عنـد مغادرتي شواطئ الجزيرة التي لم تنته كل حــكاياتها أشار مرافقي بيده إلى منحدر منبسط، وأخبرني أنه كان خلال عام 1961 مسرحاً لتصوير أحداث الفيلم العالمي مدافع نافارون «The Guns of Navarone» الحائز على جائزة الأوسكار. وجلت في الأخير ببصري نحو تلك البيوت بألوانها المتعددة والتي ظلت تروي لي المزيد من القصص التي لم يتمكن بوبا من إنهائها بسبب لعنة الدموع التي تمنع عنه الكلام كلما استرسل في الحديث عما يعرفه عن هذا المكان الذي يستغيث لأجل إنقاذه من قسوة أمواج تريد مسح عارها وعار البشر لما اقترف في حق مستضعفين.

سليمان حاج إبراهيم

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية