في الجلسة الأولى من المؤتمر العربي للمناهج وتكامل المعارف، المنظم من طرف مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، وبتعاون مع جامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس العاصمة العلمية للمملكة المغربية أيام 28- 29 أبريل/نيسان 2017، كانت لدي مداخلة تحت عنوان «التأويل النسقي/ نظرات في آليات طموحة لتحليل الخطاب». ولقد تم افتتاح أشغال الجلسة الأولى، بمداخلة محمد بازي، صاحب نظرية «التأويل التقابلي»، ثم تلتها مداخلة أستاذ الأجيال حميد لحميداني تحت عنوان «مناهج النقد الأدبي وتفاعل المعارف»، وفي هذه المداخلة المتميزة، وقف أستاذنا الفاضل عند نظرية «النقد الثقافي»، مقوضا هذه الأطروحة التي قتلت الأدب بوصفه أثرا، ذلك أن رواد هذا الاتجاه النقدي لم يكفوا عن اعتبار الأدب مجرد وسيلة لاستجلاء الأنساق الثقافية المضمرة داخل البرنامج الجمالي للنص الأدبي، التي هي غاية الفاعلية النقدية، بل أكثر من ذلك إن منظري هذا الاتجاه قتلوا حتى النقد الأدبي، حينما استعاضوا عنه بالنقد الثقافي، المنتصر لأدب الهامش/الهجين، في مقابل الأدب الرفيع، والكلام دائما لأستاذنا حميد لحميداني.
والحق إنني، في مداخلتي، قد اتفقت مع أستاذي لحميداني، بخصوص فكرة قتل الأدب والنقد الأدبي، معا، من طرف بعض دعاة النقد الثقافي، إلا أنني أرى أن فكرة التمييز بين الأدب الرفيع والأدب الهجين، التي لوح بها المتدخل، فكرة مغلوطة، لأن النظريات الحديثة، وأستاذي يعرف هذا أكثر مني، قد أثبتت أنه ليس هناك أدب رفيع وآخر هجين. فالأدب إما أن يكون أدبا أو لا.. ولنا في كتاب «مورفولوجية الخرافة» لفلاديمير بروب، خير مثال على ذلك. إن النموذج المنهاجي الذي اقترحته، كبديل لهذا الإشكال، أقصد «التأويل النسقي»، هو أنموذج ينظر إلى الخبرة الجمالية للنص الأدبي، بوصفها تغييرا للعالم، لا تفسيرا له، بقدر ما ينبغي، أيضا وعطفا، أن ينظر إلى هذا النص في أنساقه الثقافية الديداكتيكية.
إن التأويل النسقي، أو «الكشف بالنسق» (الغذامي)، هو محاولة طموحة، لإيجاد «علاقة بنيوية ووظيفية بين أنواع خطابية مختلفة» (الغذامي)، لأن هذا الكشف، يساعد المؤول، بقدر هائل من الاستبطان، على تحديد المضمون الثقافي، لهذه الأنساق المترابطة، في آمادها الأيديولوجية.
توجه نقدي، مثل هذا، يدعونا للإفادة من النقد الثقافي الذي هو فرع من فروع «النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية، معنيٌّ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي ومؤسساتي، وما هو كذلك سواء بسواء»(الغذامي).
إن تساوق الكشف بالنسق، مع النقد الثقافي، يجعلنا نقر، بمدى حاجتنا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى نقاد طليعيين، يتصدون لأساطير النسق الثقافي المهيمن.
إلا أن نظرتنا للنسق، لا تتقفى فهومات عبد الله الغذامي، رائد «النقد الثقافي» في الوطن العربي، بخصوص مفهوم النسق. فالنسق هو هيئة نصية برأسين. فهو من جهة يُضمر نسقا جماليا ذي طبيعة ثقافية بالضرورة، وهو من جهة ثانية يضمر خطابات ثقافية ضمن متتاليات نسقية. وفي كلتا الحالتين، فإن هذا النسق، إما أنه خطاب يبرر التقليد، ويعيد إنتاجه بطريقة فجة ونكوصية، وإما أنه يتحول إلى مشروع كتابة تقلب الطاولة على هذا التقليد، فاتحا الطريق أمام أفق أكثر تحررا. إن النسق، وعلى الرُّغم من أسطورة حياده الجمالي، يظل مخلصا للمرجعية الثقافية التي انوجد بها وفيها، بحيث إن جل الخطابات المُنتَجَة، في تلك الحقبة، تتوالج في أنساق تخدم، جميعها، النسق المهيمن، وتتساوق معه، تقوية وتبريرا. ذلك أنه في كل عصر أو زمن، تبدعُ حاجةُ النسق الثقافي المهيمن، أفقا معرفيا – إبستيميا خاصا، يحصن به مواقعه. وبذلك، فإن الأثر الأدبي، كما بينا أعلاه، بقدر ما هو حالة ثقافية، وقد دافع عن هذا الأمر بشدة عبد الله الغذامي، بقدر ما هو أيضا برنامج فني جمالي، يعكس ذوقا خاصا لنسق ثقافي مهيمن، وذلك إما بالاستجابة لهذا الذوق الجمالي المهيمن، ولو كان نكوصيا، وإما بالتعارض معه.
وهنا، تحديدا، تكمن نقطة تحفظنا، على كل من يرى، من دعاة النقد الثقافي، بأن خبرة النص الجمالية، هي « تزييف للخطاب، وصناعة للطاغية» (الغذامي). فشعرية «القصيدة»، مثلا، بوصفها مفهوما تهندم منذ أن وضعت اللبنات الأولى لبويتيقا الطلل، هي أيضا، علامة على النسق الفحولي، وتكريس له، وانتصارٌ لسطوة الأنا.. وبذلك نصل إلى أن «القصيدة»، كمفهوم، تسترفد من الشفاهة، ما يجعلها تتلبس بالبداوة، والإنشاد المرتبط بالفحولة، مهما ادعت من حياد ثقافي، ظاهر أو مضمر؛ فهي تظل مخلصة لهندام جمالي ماضوي، يستدعي منا، كنقاد، مراقبته، وكشف ألاعيبه. وبالموازاة مع ذلك، إن نص «ما بعد القصيدة»، مهما ادعى من حداثة جمالية، في ظل مضمون ثقافي لا إنساني، يتوجب، علينا نحن النقاد، أن نتعامل معه باحتراز شديد كذلك. والحاصل إن وظيفة التأويل النسقي، في تصورنا، تكمن أساسا في استخراج الأنساق المضمرة في النص الأدبي، سواء أتعلق الأمر بالأنساق المكرٍّسة للثقافة الرسمية، أو المضادة لها. إنها وظيفة تسعى جاهدة إلى تقويض محاولات الهيمنة والسيطرة والتمركز، من طرف السلطة المتحكمة، التي تسعى بكل الوسائل المتاحة وغير المتاحة، الشرعية وغير الشرعية، إلى إنتاج ثقافة رسمية ومركزية، تضمن لها الهيمنة والسيطرة والاستمرارية. ثقافة تتسلل حتى إلى الخطابات الأدبية في شكل أنساق ثقافية مخاتلة، عبر الحيل الجمالية النكوصية (تقليدا أو حداثة بالادعاء فقط)؛ ذلك أن هذه الثقافة هي التي تحدد مفهوم الأدب ومعاييره، انسجاما مع مبدأ مدى امتثال النص للغة الرسمية لهذه الثقافة من جهة، ومن جهة أخرى مدى تضمين هذه النصوص لأنساق ثقافية رسمية، أي مدى دفاعها عن الثقافة المهيمنة (بشتى خطاباتها) في بلد ما. فإذا ما صادف أن خرج نص أدبي ما مثلا، عن هذه اللغة، فإنه لا يقبل ولا يعتبر أدبا، مثلما هو الحال في النصوص الأدبية المكتوبة باللغات العامية. لذلك فإن المراهنة على اللغة، وعلى البرامج النصية والاختيارات الجمالية، في استخراج الأنساق الثقافية المضمرة، مطلب ملح في تصورنا، مثلما أن العودة إلى النصوص الهامشية، تلك التي لم تكتب بلغة الثقافة المهيمنة، يفيد كثيرا في تحديد الأنساق الثقافية المضادة للأنساق الثقافية المهيمنة، وكذا في تحديد نوعية وطبيعة الصراع الثقافي في أي بلد.
طرح كهذا سيجعلنا نفكر في النص الأدبي باعتباره كينونة/خبرة جمالية وأنطولوجية، في تواشج تام، يعكس وضعا ثقافيا بعينه. إذ لا يمكن أن نتصور تحررا أنطولوجيا في غياب تحرر جمالي/فني. حينئذ فقط، سيتبين لنا أن أبا تمام، والمتنبي، وأدونيس لم يكونوا شعراء رجعيين، بل إن النظر القاصر هو الذي جعلهم كذلك، لأن النقد الثقافي، كما فهمه عبد الله الغذامي، قتل الأدب من حيث هو إبداع فني، يصعد بالإنسان إلى مدارج الخلق، واستيلاد الممكن من اللاممكن. وعلينا أن نعترف بأن طرحا بهذا الفتق والقصور – عدم أدبية الأدب- هو تأكيد للخطر الذي أصبح يتهدد الأدب، بتعبير تودوروف، وإن من زاوية أخرى هذه المرة.
٭ شاعر وكاتب مغربي
محمد الديهاجي
عوفِيت وأجدْتَ .