ثلاثة فقط من المتقدّمين إلى مشروع كتابة نصّ أدبي هم ممن درسوا الأدب أو حصّلوا شهادة فيه. الآخرون، وهم اثنان وعشرون متقدّما إلى ذاك المشروع، جاؤوا إلى الأدب من خارجه. كانت دراساتهم الجامعية قد توزّعت بين إدارة الأعمال والهندسة المدنية والاقتصاد والآثار والبيئة والهندسة الإلكترونية والهندسة الزراعية والتحكّم الآلي والأتمتة إلخ. وهم رغم ذلك الافتراق بين المجالين، الأدبي والآخر المتنوّع بين حقول غير أدبية، سبق لأكثرهم أن نشروا كتبا تراوحت بين روايات ومجموعات قصص قصيرة وسيناريوهات أفلام وثائقية وحتى روائية.
في ما سبق، كان نادرا ذلك الاختلاط إذ كان منتجو الأدب آتين من دراسته والتفرّغ له. ظللنا عقودا نعدّد على نصف أصابع اليد الواحدة أولئك الذين جمعوا بين ممارسة الطبّ والكتابة، متسائلين إن كان هذا الجمع يأخذ من كل من المجالين نصفَه. في أذهاننا، كما في مخيّلاتنا، ارتبطت صورة الأديب أو المفكّر بانعزاله عما حوله، أو عيشه بين ركام الكتب، أو سقوطه ميتا تحت أثقالها، كما آل إليه حال الجاحظ. الآن، مع جيل الكتابة الجديد، يبدو أن جمع الكتابة إلى ما يخالفها، أو إلى ما كان يخالفها، قد صار قاعدة. وهذا ما يعني أن الكتابة لم تعد هاجسا مشتملا على الطموح كله، كما كانت في تاريخها، بل صار الطموح متقاسَما ليست هي، الكتابة، إلا جانبا، أو فرعا منه.
أي أننا إن شئنا أن نضع تعريفا لما باتت عليه الكتابة الآن، وما هي ذاهبة أكثر فأكثر نحوه، لقلنا إنها الهواية وقد اتسعت أو تضخّمت. أو يمكن لنا أن نقول أن الكتّاب الجدد هم أكثر تعقلا من سابقيهم، وأكثر استجابة لتغيّرات الحياة. وقد أعانهم على ذلك التراجعُ التدريجي المستمر في صورة الأديب، وفي بؤس الاعتماد على الدراسة الأدبية. في بيروت، على شاشة التلفزيون، وقف مدير إحدى الجامعات الخاصة ليعلن أن عدد الطلاب المتقدّمين إلى دراسة الأدب بات صفرا في جامعته. لم يكن متأسفا في ما هو يقول ذلك، بل ربما شابت لهجته سمة الانتصار، هو العارف أن ما ينبغي أن يتخصّص به الطلاب هو ما يؤمن لهم نجاحهم.
نحن إزاء تغيّر حاسم لصورة الأديب، تلك التي حاول يوكيو ميشيما أن يجري تعديلا عليها، من الخارج، بأن أصرّ على أن يكون مظهره مظهر موظّف عادي، أي أن يرتدي بدلة وربطة عنق ويحمل بيده حقيبة «السمسونايت» ليبدو على صورة رجل ناجح ذاهب إلى عمله. ذلك طبعا مناقض لفكرة الانطواء التي تبدي صورة الأديب مشابهة لصورة المتصوّف. ألآن، في الأمسيات الشعرية التي يقيمها أولئك الشعراء الجدد يبدون، فيما هم يقرأون قصائدهم عن هواتفهم، كأنهم يسخرون من الصورة القديمة التي كان عليها سابقوهم، إنهم يحاولون نسف تلك الصورة.
في الاختصاصات الأكثر راهنية التي توزّع بينها أولئك المتقدّمون إلى مشروع الكتابة الأدبية، يبدون كما لو أنهم موجودون في كل مكان، في المصانع مثلا، أو في مكاتب التوظيف أو أمام الأجهزة المفكّكة، أو في المختبرات المختلفة. وهؤلاء، إذ تتعدّد معهم أمكنة عملهم وعيشهم، يصيرون أقل التزاما بالأشكال المعروفة للكتابة. فها انهم، بين ما يقترحونه على الهيئة الداعية إلى مساعدتهم على إنجاز أعمالهم الكتابية، يسمّون المونودراما والأعمال الأوبرالية وتغيير أشكال الأنطولوجيا و»الطبخ في الغربة» وعن إيجاد أشكال جديدة من التواصل بين الأدب والسينما، وكذلك تحويل التراث الأدبي، «كليلة ودمنة» على سبيل المثال، إلى أعمال بصرية…إلخ.
وفي عودة إلى أولئك المتقدّمين إلى الفوز بالمشروع الأدبي المذكور أعلاه، قد نرى أن ذلك التغيّر، والجمع بين الأدب والاختصاص، قد يكون بين بواعثهما فقدان المكان الثابت، للحاضر وللمستقبل أيضا. الخمسة والعشرون متقدّما جميعهم ينتسبون إلى بلدان تجري فيها حاليا حروب ونزاعات، 16 منهم يقيمون خارج بلدانهم، وبنسب في التوزّع على البلدان، تقوم على قاعدة استعداد مراكز الهجرة لاستقبال النازحين. وهناك، في ألمانيا أو هولندا أو فرنسا لم يتح للفارين من الحروب بعدُ أن يتشكّلوا في مجموعات، على غرار ما فعل الشعراء المهجريون السابقون. إنهم الآن موزعون خارج عواصم تلك البلدان، تبعا لما يقتضيه التخطيط الذي وضعته البلدان المستقبِلة. قد يتساءل من يرغب في متابعة ما ستؤول إليه أحوال هؤلاء في مهاجرهم، ربما ضرورية هي أبواب الكتابة الجديدة التي اقترحوها في الطلبات التي تقدموا بها، حيث ستكون موضوعات كتاباتهم هي ما يعيشونه.
٭ روائي لبناني
حسن داوود