باريس ـ «القدس العربي»: تصلح لوحات الفنانة التشكيلية السورية ريم يسّوف، المعروضة حالياً في صالة «أوروبيا» في باريس، لأن تكون أحد النماذج لمعاينة التغيّر الذي أصاب الفن التشكيلي السوري إثر اندلاع الثورة في البلاد، حيث لوحاتها تعلن انخراطاً صريحاً في الشأن السوري العام الراهن، وانتقالاً من مشاغل فنية خالصة، إلى رسائل ترمي إلى الوصول والتبليغ.
عشية الثورة، كانت يسوف (1979) مشغولة بتجارب لونية، كما قالت لـ»القدس العربي»، لكن لم يكن بوسعها إلا أن تنصت لما يجري حولها، فهي تعتبر أنها ليست مع فكرة «الفن للجماليات وللتزيين، وإنما هو فكر أولاً وثقافة شعب». وتضيف «الضغط الكبير الذي وصلني عبر الإعلام دفعني إلى مقاطعة كل شيء، والانعزال في المرسم. موت الأطفال خصوصاً أثّر بي، هذا ما دفعني للكتابة. نفرت من اللون. بات اللون يشكل ضغطاً نفسياً، ولذلك بدأ العمل على اللون الأبيض. كنت كمن يمحو، ثم تحولت إلى الرمادي وألوان الأرض».
هذا التحول جرى في فترة قصيرة، كما تقول الفنانة، حين انتقلت من أبحاثها اللونية، ومن «العمل على فكرة شخصية، هي موضوع الجسد، إلى جانب دراسة علاقة القط مع البشر الحركة والفراغ»، وقد كان القط أحد عناصر لوحاتها البارزة، لكن ذلك ليس كل شيء، هناك تحول قد يبدو شكلياً طال لوحة الفنانة، وهو يتعلق بأحجام اللوحات، حيث باتت أصغر بما يلائم حملها في حقيبة، إثر حياة غير مستقرة تعيشها الفنانة في العاصمة الأردنية عمان، اضطرتها لتبديل بيتها سبع مرات في ثلاث سنوات. الفنانة تؤكد «أن الفكرة لعمل ما دائما تحددها المساحات».
معرضها في باريس حمل عنوان «نسائم باردة»، تعتبر الفنانة أنه «يعكس أحوال الغربة والأمكنة البعيدة. نسائم باردة لها علاقة بالحرب والانتظار. حتى على مستوى تقنية الشغل ستجد اللوحة عبارة عن قطع، وهذا يشبهنا، مقطّعين وبيننا حدود». أثناء تحضيرها للمعرض الباريسي (مستمر حتى أواخر الشهر الجاري) فكرت الفنانة أن تقوم بورشة عمل مع الأطفال على أن تحوّل أعمالهم نفسها إلى هذه الرسائل، اللوحات، بدلاً من عناصر لوحاتها، الطائرات الورقية والطيور ومغلّفات الرسائل والسلالم وغيرها. أرادت أن يكون الأطفال وأعمالهم رسائل إلى العالم. لم تساعدها الظروف فاستنجدت بأطفال مخيّلتها.
إذن فإن المعرض قائم على فكرة الرسائل، كانت الرسائل بداية طيارات ورقية، تفسرها الفنانة بالقول «هي أكثر لعبة تتيح للطفل أن يركض عبر مساحات واسعة، في أرض هي للجميع، تحمل الطائرات أيضاً فكرة رمي الأمنية، هي في النهاية أقرب إلى ورقة بيضاء نكتب عليها أمنية أو رغبة أو طلبا ونطلقها في الفضاء». شيء يذكّر بفكرة الرسالة في قلب زجاجة مرمية في البحر لا تعرف بأي اتجاه يمضي، كأنما تعوّل على معجزة الوصول إلى أحد. بعدها، تتابع الفنانة، صار العنصر الطاغي هو مغلّفات الرسائل الورقية، التي تنتظر أن تُقرأ. وتضيف «لم يعد القطّ شاهداً، هو الكائن الموجود في الشارع على الدوام، ولم تعد هناك طائرات ورقية، صار هناك شيء واقعي وأدوات ملموسة».
جنون التعبير
ولأن أعمالها الجديدة صدى للوضع في سوريا، كان لا بد من هذا الحضور للفكرة والموضوع، تقول «ليس لديّ ما أعبر عنه وما أفعله سوى ذلك. ظهرت اللوحة في البدايات عبارة عن ظلال لأطفال يلعبون. كان وجه الطفل بدون أي تفاصيل. المتاجرة بصور الأطفال الأكثر تأثيراً عليّ. شغلي هنا كان قائماً دائماً على فكرة، الفكرة هي ما جاء بالتقنيات وليس العكس».
ومع ذلك فإن الأفكار لا يمكن أن تشغل الفنانة عن البحث المستمر في تقنيات العمل. لقد عملتْ لفترة من حياتها في مجال تصميم المجوهرات. تقول «العمل على المجوهرات أفاد تجربتي وأغنى شخصيتي. كنت أحب العمل على الحجر، كل مكان أذهب إليه أعود منه بحجر. هذا آت من حبي للنحت. تصميم المجوهرات أثر على تقنياتي، بخصوص الدقة، وحركة اليد. صار عندي أيضاً توازن أكبر بين العقل والعاطفة. عادة يعيش الفنان التشكيلي في قوقعته، لكن العمل في المجوهرات والتصميم أخذني إلى قلب الحياة، فحقق لي نوعاً من التوازن». لكن كيف تفسر الفنانة أن الفن التشكيلي السوري كان سباقاً أكثر من غيره من أنواع الإبداع في مواكبة الثورة والتعبير عنها، تقول «طبعا الفن التشكيلي هو مالك القدرة الكبيرة للتعبير عما يجري، وهو انعكاس للحياة اليومية. الفنان ليس مؤثراً وحسب، فهو متأثر أولاً، وهو جزء من المجتمع. رغم الفوضى والتجارب الكثيرة يبقى الفن التشكيلي السوري أولاً انعكاساً، ومن ثم هو توثيقي لمرحلة، ومؤثر ومدافع بصرياً وفكرياً». وتشير يسوف بالذات إلى إنتاج الشباب، وإلى فن الغرافيك الذي كان حضوره الأقوى، هو المتتبع للّحظة، ولكن بلغة بصرية جيدة، وأبسط من اللوحة كعمل تشكيلي أو للنحت أو أي نوع من الفن، وقد تحولت لحالة تنافسية رائعة بين الشباب، شعرت بأنها كانت مقدمة لمرحلة جنون التعبير».
ولدى سؤالها عمن تأثرت بهم من الفنان السوريين، ومن هم أساتذتها تقول يسّوف «بالنسبة لي شخصياً الفنان عبدالله مراد مهم جداً. قد يكون أثر بي في اللاوعي. ومع أن شغلي مختلف عنه، لكني أعشق أعماله، ومتعصبة تجاهه». وتختم بالقول «أنا في النهاية لا يمكن أن أخلق من شيء غير موجود، لدينا صور من الفن العالمي، لكن المتوفر أمامك هو الفن السوري، المؤثر حتماً».
راشد عيسى