ماذا نفعل حين يكون الآباءُ طغاةً ومستبدين؟ وهل لنا نحن ـ الأولاد القاصرون- فرصة للخروج من لزوجة الطغيان، إلى برِّ اللغة واستعاراتها ومجازاتها وأقنعتها، وإلى حرية تُتيح لنا التمرد والتجاوز؟
ماذا سنفعل بإرثهم القاسي، وأثرهم «المقدّس» وبكل الوصايا العالقة على أستار القصيدة والقصة والنقد والرواية والفكر؟ فهل يحق لنا أن «نتنمر» بنوعٍ من الطمأنينة على تلك الأستار، وعلى سلطتهم الرمز، وأن نمارس حقنا في أبوة أخرى، أو أن نقوم بـ» نتف لحية فكتور هوغو»، كما قال رامبو ذات مرة؟ لكي نستأنف الحياة بأسئلة أخرى.
أحسب أن هذا الاعتراف الصاخب يتطلب جرأة، ومسؤولية وقوة، ليس لأنه جزء من خطاب أخلاقي، بل لأنه جزءٌ من وعي إشكالي ونقدي للزمن، والمثاقفة، ولمسؤولية الكتابة، ولمسؤولية الموقف في إنتاج أسئلة لها راهنيتها وحميميتها وجدواها، وبالاتجاه الذي يجعل مفهوم التاريخ المكتوب – قابلا للمراجعة والإزاحة، مثلما يجعل مفهوم النص صالحا للتمرد على «وهم الزمنية» كما قال أدونيس. ما بين الإزاحة و»وهم الزمنية» نحتاج إلى شجاعة لمواجهة كثير من المنصات المُشيَّدة للطغيان الثقافي، ولألواح التدوين الطاعنة عبرها، حيث وُضِع «قميص السياب» و»راية البياتي» و»النبرة الخفيضة» لسعدي يوسف، وفحولة أدونيس، ومعاطف الآباء النقاد في سياق إطلاقي، بعيدا عن فكرة المتحف، والمكتبة والدرس والأثر، وهي معطيات طبيعية وكينونية للجسد وللنص أيضا. وبقدر ما أننا نعيش فوبيا سلطة المتحف، وأشباح المكتبة، والخوف اللاوعي من الأب الفرويدي، فإن خيار» التشيؤ الثقافي» قد يكون نوعا من الحل، بوصفه مقاربة اضطرارية لإعادة صياغة مفهومية وتداولية للزمن، وللأفكار والأسئلة، وجرّ الأشياء من التاريخ، إلى النص والنسق معاً. هذا الخيار ليس عقوقا، بل هو حق ثقافي، وحتى بيولوجي ينبغي ممارسته والاعتراف به، لاسيما وأنّ زمن الآباء الواقف تحول إلى «زمن أيقوني» له شيفراته، وعلاماته وحرّاسه ومريدوه، وأن يافطاتهم الثقافية تحولت إلى عتبات كبرى، أو ربما إلى سرديات كبرى من الصعب التجاوز على مخيالها الثقافي، أو البحث عن مساحات للتلصص والتحاور والمغايرة، وحتى للتخيّل المجاور، فهم يملكون الحق الرمزي والتاريخي في الطليعة وفي الثورة، وفي حق التجاوز، وحق الرؤية، وهذه حقوق غير قابلة للتصرّف، كما تقول القاعدة الفقهية.
الذاكرة والأيديولوجيا
الخلط التعسفي ما بين الثقافي والسياسي قد يكون لعنة، صنعتها الحكومات والأحزاب والأدلجات، لتكريس مفهوم عمومي للثورة وللطاعة وللمثقف الموظف، أو المثقف الثائر، أو حتى المثقف الصعلوك، لأن السياسة العربية، بقدر ما أنتجت لنا طغاة وديكتاتوريين، فإنها أنتجت- ايضا- مستبدين وآباء غلاظا في الثقافة، ظلوا يحملون رايات الفاتحين، ويلبسون قفاطين الفقهاء والكهنة، وربما يتمثلون بأقنعة أدوار «حراس البوابات» القساة. الخلط الأيديولوجي والثوري يمكن أن يكون أكثر تأثيرا في الصناعة الافتراضية للغلو الثقافي، ولتحويل المثقف إلى زعيم وعرّاب وقائد ومناضل، وهي صفات تتحول فيها الرمزية إلى سلطة، وتجعل من المثقف مسكونا بأوهام صانع اليافطات والبالونات، والمغامر الذي يمتلك حقا «طابويا» يُجيز له الاحتفاظ بحدود الذاكرة، وبالحقوق العائلية للأفكار والقصائد والحكايات، فضلا عن حق «الملكية» بوصفه المُبشّر الأول، والصوفي الأول، والضحية الأول..
لقد لعبت أيديولوجيا اليسار دورا غامضا في صناعة المثقف الفائق، الجدانوفي، أو التروتسكوي، أو الجيفاروي، مثلما لعبت الأيديولوجيا «القومية» دورها الإيهامي في صناعة المثقف الوحدوي والرسالي والفدائي، فضلا عن ما لعبته أيديولوجيا «الملّة» من دور في صناعة المثقف الفقيه، اللاهوتي، وصولا إلى تمركزه حول صورة المثقف «الإرهابي» والتكفيري، وصولا إلى المثقف الانتحاري.. لهذه الصور المتعددة والغائرة آباء مؤسسون، يتشاطرون مع آباء الأدب لعبة السيطرة والفتوى، والملكية، والشرعنة، وصولا إلى خيار امتلاك النص والسرير والرأي، وحتى خيار الموت، وهذا ما جعل تلك الصور تتحول إلى إشاعة، وإلى أيقونات، وإلى تابوات لا يجوز انتهاك ذاكرتها، ولا حتى التعاطي مع فكرة وجودها العلاماتي على الحائط، أو في المكتبة، لأنّ الخرق سيعني للكثيرين ممن يعيشون «فاشستية الأب» تجاوزا وهدما في القاعدة الفقهية، وفي السياق التاريخي، وتحريما لأيّ اجتهاد يمنح الابن حق استئناف مشروعه الثقافي لوحده، وحق الخروج إلى عري الأمكنة والأسئلة والقضايا الكبرى.
أنا والسياب وأدونيس
التعرّف على السياب، يعني التعرّف على تاريخية الخرق الشعري، مثلما أن التعرّف على أدونيس تعني التعرّف على الخرق الفكري، وعلى تاريخية القراءة للأسماء/ الأقنعة، وللتحولات التي هربت من علم الكلام إلى الأدب، أو هربت من الفلسفة إلى الشعر والنقد وعلم الجمال واللغة، وهو هروب عظيم، أسهم إلى حدّ كبير في تقويض تاريخ عريض من المركزيات الضاغطة والقامعة، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى مكوثات، وإلى مواقف، وإلى أنماط حاكمة،، وإلى فقهيات أخرى في علم كلام ليست بعيدا عن ذاكرة «الأشعرية» الثقافية، إذ تحولت القصيدة إلى «قميص يوسف، والفكرة إلى فتوى أو وصية، وظلت لعبة رمي التاريخ بالحجر قائمة، بدون أن يرمي أحدٌ ما على صورته المرآوية، ولا حتى يُفسّر قسوة السلطة الثقافية العربية، التي مازالت تحكم بوصفها تملك سوط الأب ومقعده الأبنوسي، وتراهن على بقاء صورته العائلية على حائط السلالة والأمة والملة والأيديولوجيا والثورة.
« أنا» لا تعني مركزا ضديا، ولا حتى مقترحا لكوجيتو آخر، بقدر ما تعني سؤالا للمناورة، وللحق في السجال والجدل، وفي البحث عن وجهٍ آخر للحقيقة. «أناي» واحدة، تعيش قلق الأسئلة، وقد تشبه في ذلك «أنوات» أخرى، لها معاناة كبيرة مع تاريخ السطوة، والتهميش، ورغم أنها متمردة، إلّا أنها كثيرا ما تُتهم بالنزق، والعقوق، والسعي لوضع قميص السياب على حبل الغسيل، أو وضع مرايا أدونيس في غرفة الخلوة، وهذه تُعدّ من القضايا الكبرى، والمروقات الكبرى، التي سيتصدى لها أنثروبولوجيون وعلماء نفس وعلماء لغة وفقه ونقد، لأنها ستُحسَب خروجا عن القاعدة، وعلى ثنائية الأبوة والبنوة، وتمردا على التأسيس! رغم أن المنطق يقول إن الإنسان هو الكائن الوحيد «الذي يملك مقبرة» كما قال الطيب بوعزة، والمقبرة الثقافية ليست بعيدة عن تاريخ المقابر الأخرى، حيث تعني تحريضا على قانون الحياة، وإلى مراجعة كلّ الأشياء، بما فيها «عيوب التأسيس» التي ستخضع فيها لمقاربة التحوّل والإضافة، والتنازع، والقبول بالجديد بوصفه قبولا نقديا ومعرفيا، إذ ستموت المعرفة التي لا تقبل التجديد، وسيجد المعرفي القديم بوجهه الخيميائي أمام خيار المقبرة، أو خيار القبول بالمراجعة وتجديد زوايا النظر للأفكار والعلامات والأنساق والنصوص، ولتجد «الأنا» فرصتها في الدخول إلى اللعبة، حيث ضرورات التواصل والمشاركة، والتفاعل وإعادة النظر في تاريخ «القمصان» وتاريخ «المرايا» بعيدا عن وهم الحساسيات و»الزمنية» التي ظلت عالقة بالذاكرة، وجعلت من «أصابع زليخا» محض عدوان، وليس عنوان رغبة، وأحسب أن الثانية هي الأصدّق وتمثيلا لسؤال خلود الجسد وتحولات الفكرة…
٭ كاتب عراقي