«آخر أيام الباشا» رواية المصرية رشا عدلي: الحب والحرية داخل اختلافات كتابة التاريخ

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

 الروايات الناجحة المميزة هي التي تسرد إلى جانب حكاية الأحداث الظاهرة حكايةً أخرى عميقة تدفع الرواية للارتقاء إلى مستوى التأثير في المفاهيم والقناعات والمعتقدات، إذا ما تشابكت الحكايتان كوجهين لعملة واحدة. وقد تكون الحكاية العميقة هي حكاية فنّ الرواية نفسه، على صعيد من صعدها، أو حكاية الزمن في تداخلاته، أو حكاية حقائق التاريخ في اختلافات وجهات النظر والمصالح، مثلما فعلت رواية «آخر أيام الباشا» للروائية المصرية رشا عدلي، التي عالجت أحداث إهداء والي مصر محمد علي باشا، إلى ملك فرنسا شارل العاشر، هدية استثنائية هي الحيوان العجيب الأسطوري بالنسبة للأوربيين وقت ذاك، الزرافة. وسارت من هذه الأحداث التي جرت في الماضي إلى حكاية التاريخ نفسه، وحقائقه التي تعالجها الأبحاث والتحليلات، ومناهج روايته، في الحاضر، لتسير الحكايتان بارتقاء روائي فني مميّز إلى المستويات العميقة للتأثير، وإنجاز روايةٍ مميزة بالحداثة. وتدخل في هذا، كمثال، مسألة اتجاه إبراهيم باشا لمهاجمة الإمبراطورية العثمانية من دون استشارة والده، كما استقر المؤرخون على هذا كحقيقة، في باب معالجة حقيقة أخرى مناقضة تقول إن إبراهيم لم يكن يمتلك الذكاء والدبلوماسية بقدر امتلاكه قدرة المحارب، وأن محمد علي نفسه المميز بالدهاء الدبلوماسي والاستراتيجي هو نفسه الذي أمر إبراهيم بهذا الفعل، مشيعاً قصة تمرد إبراهيم عليه، لكي يجد مخرجاً وتبريراً عند مواجهة العقبات. ويفعل ارتباط معالجة اختلاف هاتين الحقيقتين داخل أبطال الرواية أنفسهم فعله في ارتقاء الرواية الفني إلى قوة التأثير والأهمية التي أوصلت هذه الرواية إلى دخول القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» لعام 2020.
ويكتسب قارئ هذه الرواية، من خلال معالجة اختلافات وجهات النظر في حقائق التاريخ، غنى في المعلومات، وإثارةِ التساؤلات، وربما التحريض على البحث في الواقعيّ والمتخيّل، خاصةً وأن الشخصيات التي تضعها الرواية في خلّاطهما، لها مكانتها في تاريخ الأدب والفن، مثل ستاندال، شاتوبريان، ألكسندر دوماس، دولاكروا، وفيكتور هوغو؛ إلى جانب الغنى المعرفي بصراعات المناهج. كما يعيش متعة الرواية داخل الرواية بأحد وجوه إبداعاتها الراقية، من خلال عيش التاريخ بشخصياته التاريخية في الحاضر الذي تجسده شخصيات الحاضر؛ ليس في مثال إبراهيم باشا فحسب، بل في آخر أيام الباشا الذي تدخل فيه حقيقة أخرى على حقيقة خَرَفه في آخر أيامه، لتغني الرواية داخل الرواية بتشويق البحث في مسألة المؤامرة.
«آخر أيام الباشا»، روايةٌ تعالج التاريخ داخل الحاضر، بتداخل طليق بين الواقعي والمتخيّل، أفصحت عنه الروائية في التقديم أنّ روايتها مستوحاةٌ من أحداث حقيقية، وأغنت جريانها بالعديد من دراسة لوحات المتاحف، وكتب التاريخ والأدب والبحوث وقصاصات الصحف من المجلات ودور النشر المعروفة والمجهولة. كما أغنتها بما هو مهم ومثير للتساؤلات في تداخل الواقع والخيال، ويدعو للبحث فيه، مثل مواقف كتاب وفنانين دخلوا تاريخ الفن والأدب بوزن دولاكروا وفيكتور هوغو، في حواراتهما مع شخصية البطل الأولى في الرواية، حسن البربري، جنديّ الإنكشارية السابق وحارس الزرافة الذي يصبح جزءاً من أرقى صالونات باريس الثقافية في بداية القرن التاسع عشر، ويقيم علاقة حّب مع أشهر نجماتها «عندما ذهب حسن إلى بيتها في ذلك اليوم وجد بابها موصداً. وبعدها ذهب إلى المقهى فأخبره هوغو أن هناك أوامر صدرَت بإغلاق صالونها وسفرها إلى جهة غير معلومة. غَلتَ الدماء في عروق حسن وخبط على الطاولة بعنفٍ بقبضة يده.ــ أليس هذا يتنافى مع الديمقراطية والحرية اللتين من المفترض أن يتمتع بهما الغرب؟
ضحك هوغو بسخرية…
ــ ومَن قال لك أن الغرب يتمتع بديمقراطية أو حرية؟ إنها مجرد شعارات، أما ما يحدث في الواقع فهو العكس تماماً!
ــ للأسف، كنت أعتقد أنني أخيراً قد عثرت على عالم مختلف عن الذي جئت منه، عالم ليس فيه طبقية وليس فيه ظلم وليس فيه قسوة.
ــ عزيزي حسن، أنا حقاً أتألم من أجلك ومن أجل شانتال أيضاً! ما حدث جعلني أبدل من أحداث روايتي «أحدب نوتردام» سأجعل أحداث الرواية تدور في فترة سابقة من التاريخ حتى لا يتعرض الرجل للأذى، لا أستطيع أن أتحمل ذنب إنسان مسكين يتأذى بسببي».
ويتضح للقارئ بسهولة مدى ضخامة التساؤل والتحريض على البحث اللذين يثيرهما كلام هوغو عن تبديل زمن روايته بسبب خوفه من أن يتأذى بطله الأحدب كوزيمودو، الذي تظهره عدلي في مقطع سابق أنه قارع أجراس نوتردام الواقعي إيمودو الذي يأتيه هوغو بحَسَن للتعرف عليه، كمماثل له في المعاناة الإنسانية من الظلم.
كما يتضح للقارئ مدى ما تتضمنه الرواية من معالجة تعقيد علاقة الشرق والغرب، التي لا تتضمن السياسيين والتجار فحسب، بل تخوض عميقاً في مواقف المفكرين والفنانين كذلك.
في تداخل ارتباطاتها العميقة بين ثنائية التاريخ والحاضر، الواقعي والمتخيَّل المبنية على البحوث والتحليلات وإطلاق الخيال، تضع عدلي روايتها في بنية بسيطة، تقسمها زمنياً إلى زمنين يجريان في التاريخ والحاضر، وممثَّلين بفترتين:
ـــ التاريخ بأعوام ثلاثة: 1826، 1827، 1828، هي أعوام حكاية حسن البربري، في عبوديته أولاً عندما كان الحارس الخاص للقنصل الفرنسي الفاسد دروفيتي، الذي يشير على محمد علي باشا أن يهدي زرافةً إلى الملك شارل العاشر، رمزاً لعلاقته المميزة بفرنسا، بعد تدمير الدول الأوربية لأسطوله البحري عقاباً على دعمه العثمانيين ضد اليونان في حرب المروة، وأمره لحسن أن يكون حارس الجميلة الأفريقية في رحلتها، ضد رغبته بالبقاء إلى جانب حبيبته مهجة ابنة مشعلجي القناديل. وهي حكاية حسن في حريته ثانياً، وشعوره بإنسانيته بعد تسليم الزرافة واختلاطه بمثقفي باريس، وصالوناتها، وانعكاس هذه الحرية على ارتقاء شخصيته، وحبّه لمدام شانتال، وإثارة حقد عشّاقها والمتعّصبين والفاسدين، من قطفِ شرقيّ نجمة صالونات باريس، ومن ثم موته المتخيّل المبني على وقائع موجودة لهذا الحب. ويدخل في هذه الأعوام عرض عدلي الباذخ لمدن هذه الأعوام وعادات أهلها وثقافتها التي تنعكس على الشخصيات.
ـــ والحاضر بأعوام ثلاثة: 2015، 2016، 2017، هي أعوام حكاية الباحث الدكتور جهاد مصطفى، بروفيسور التاريخ في مركز الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن، وصاحب كتاب «الزرافة الدبلوماسية» الذي اشتهر به، بتصوّرها، ولم تختره الروائية عنواناً لروايتها رغم مناسبته أكثر لمحتواها، مفضلةً اختيار عنوان كتابه الآخر المتصوّر عنها، «آخر أيام الباشا»، رغم ضعف تناسبه مع سياق الرواية، بأفكار عدلي نفسها عن التاريخ وقيامها بذلك، إلى رسم التاريخ من شخصياته الشعبية. وهي حكاية التاريخ واختلافات المناهج بدراسته، وانحراف اتجاه بطل هذه الأعوام بتأثير أفكار ونصيحة صديقته «زینة نعمان» أستاذة تاریخ الاستشراق بجامعة السوربون، التي اختلفت معه بشدة حول صراع محمد علي مع الإمبراطورية العثمانية، وعلاقته بابنه إبراهيم باشا. ومن ثم انكشاف سرّ مخالفته للمؤرخين حول شخصية محمد علي، وسرّ سحره بها الذي يعود إلى محاولة تعويض جبن والده الذي عاشه في طفولته بهذه الشخصية الفذة الجسورة:


«في الواقع لا أفهم كيف بإمكانك أن تكون ضد المؤرخين التقليديين، وتهتم في المقام الأول مثلهم بدراسة التاريخ من أعلى. الرجال العظام والحروب العظيمة والقرارات الكبيرة؛ أنا ضد ذلك. أنا أؤيد دراسة التاريخ من أسفل؛ دراسة الشخصيات الثانوية، الشخصيات البسيطة التي ليس لها باع السياسة. العمال، الطلبة، النساء، ومدى تأثيرهم على التاريخ في أزمنة معينة .التاريخ من أسفل يساعد الذين وُلِدوا دون ملعقة من ذهب في أفواههم حتى يستطيعوا تصحيح المجرى العام للتاريخ السياسي».
وتَقسم عدلي روايتها مكانياً إلى المدن نفسها في التاريخ والواقع: لندن، باريس، مرسيليا، الإسكندرية، والقاهرة في أزمان التاريخ والحاضر.
ويتداخل التاريخان في جريان الرواية عبر سرد الراوي العارف، بما يشوّق القارئ ويشدّه لمتابعة الحكايتين بأسلوب سيناريو التتالي، في 66 فصلاً مقسّمة على ثلاثة أجزاء، وتتضمّن عرض الزمان والمكان بعنصريهما الأساسيين: الشخصيات، والواقع الذي تتحرك فيه.
ويعيش القارئ في هذين العنصرين غنى الهم الإنساني ــ العبودية والحرية مع حسن، وغنى المكان بعاداته وتقاليده وتفاصيل حياته في التاريخ والحاضر لمدن لها أهميتها الكبيرة في صنع التاريخ.
رشا عدلي روائية مصرية من مواليد القاهرة عام 1972. باحثة ومحاضرة حرة في تاريخ الفن. أصدرت ستّ روايات قبل هذه الرواية: «صخب الصمت» (2010)، «الحياة ليست دائما وردية» (2013)، «الوشم» (2014)، «نساء حائرات» (2014)، «شواطئ الرحيل» (2016)، «شغف» (2017)، بالإضافة إلى دراسات منها «القاهرة المدينة الذكريات» (2012) و«المرأة في تاريخ الفن» ــ تحت النشر.
رشا عدلي: «آخر أيام الباشا»
الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2019
199 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية