هنالك، على مرّ السنين، أرشيف ضخم لصور عمال فلسطينيين (غزّيين على وجه التحديد) على معبر إيرز (معبر بيت حانون) في انتظار دخولهم إسرائيل للعمل، عندما يتاح لهم العمل هناك أصلاً، فغالباً، ولأقل الهزات السياسية أو العسكرية، كان يغلق المعبر في وجه أولئك الساعين إلى رزقهم.
آخر حصيلة للتصاريح الممنوحة من قبل الإسرائيليين لعمال القطاع بلغت 18 ألفاً و500 تصريح. وكانت هناك مطالبات، بلغت حدّ التظاهر، في أيلول/سبتمبر الفائت، أمام المعبر، برفع عدد التصاريح إلى 30 ألفاً. طبعاً، فالبطالة على أشدّها في القطاع المحاصر منذ سنوات، واقتصاده في الحضيض، وحتى إن تمكّن الغزاوي من الحصول على عمل، فإنه يعرف الفارق الهائل بين ما يتقاضاه هنا، في غزة، وما يتقاضاه هناك، عند الإسرائيليين، على العمل نفسه.
في الصور الآتية لهؤلاء من المعبر لم يكن ثمة دم، ولا حطام، ربما حتى ولا ضرب أو اعتداء، لكنها كانت من بين الصور الأكثر إيلاماً في التاريخ الفلسطيني. لطالما تأملت في تلك الوجوه؛ يا لطيف حجم التعب، العذاب، الصبر على الأيام. يا لطيف حجم الحصار على الوجوه.
هم أحفاد المطرودين من بيوتهم وقراهم وحواكيرهم، مساقون للعمل عند أحفاد من طردوهم واستولوا على بيوتهم وقراهم وحواكيرهم
ومع أن واحدهم سيرى أنه محظوظ بالحصول على تصريح، لا بدّ أن الإحساس بأنهم، هم أحفاد المطرودين من بيوتهم وقراهم وحواكيرهم، مساقون للعمل عند أحفاد من طردوهم واستولوا على بيوتهم وقراهم وحواكيرهم. انسَ حكاية العائد إلى حيفا، ذاك كان عنده ترف المماحكة الفكرية الندّية، كان لديه كل الوقت ليناقش ويجادل ويستشهد بكلامٍ تَحْفَظُهُ الأيام، فهُم، على الأرجح، مساقون من فم ساكت، كما تشي الصور.
ربما كانوا محظوظين بالفعل، أولئك العشرين ألفاً، من بين مليوني غزاوي، ولكننا، نحن المتفرجين على الصور، كنا نشعر على الدوام بثقل كل ذلك.
أمس، أعدتُ، مرات ومرات الفيديوهات التي تصوّر اقتحام معبر إيرز، تفرّست بكل حجر، وكل باب، وسلك معدني، بكل شجرة، ولم تغب عن بالي تلك الصور، بل لقد ذهبتُ عن قصد إلى تلك الصور من جديد، صور العمال العالقين بين أسلاك المعبر، ولم أتخيل إلا أن هؤلاء العمال أنفسهم ما عادوا يطيقون الصبر على الذل، خلعوا بدلات العمل، وارتدوا الكاكي، وصاحوا صيحتهم: «أبوهم على أبو المعبر».
«لهم الشمس،
لهم القدس،
والنصر،
وساحات فلسطين»
إن فتحتَ باب الفيديو في وكالة أنباء النظام السوري ستجد على رأس الفيديوهات واحداً بعنوان «العلم الفلسطيني يزين جدران دار الأوبرا في دمشق»، ومدته 17 ثانية، هكذا، من دون إي إسهاب في الوقت أو في توضيح مناسبة العلم.
الفيديو التالي يحمل عنوان «وحدات من قواتنا المسلحة تنفذ ضربات مركزة على مواقع الإرهابيين في ريفي حلب وإدلب»، ومدته دقيقتان وستة وعشرين ثانية، وهنا ستسهب الصواريخ في الضرب بلا هوادة، مع مارش موسيقي عسكري ملائم للحماسة.
هذا هو دأب النظام السوري وأشباهه: ارفع راية فلسطين وافعل تحتها ما طاب لك من الجرائم!
هذا هو دأب النظام السوري وأشباهه: ارفع راية فلسطين وافعل تحتها ما طاب لك من الجرائم!
إن أردت أن ترى تتمة فيديو ضربات النظام السوري المركزة، اذهب إلى مواقع التواصل الاجتماعي، لتراها تغص بالفيديوهات والصور لضحايا مدنيين تقع عليهم الصواريخ منذ خمسة أيام. صور توجع القلب، تتكرر منذ اثنتي عشرة سنة، من دون نهاية، من دون أن يقول أحد بجدية: أوقفوا هذا القتل. أوقفوا هذه الوحشية.
* كاتب من أسرة تحرير «القدس العربي»