بعد أن قضى أكثر من ثلاثة عقود في كتابة قصصية وروائية تتكئ على ميراث حرب التحرير، وبقايا الحنين إلى الطفولة، وفي التأريخ للجزائر العاصمة، بحاراتها وساحلها، غامر مرزاق بقطاش صوب تجربة مُغايرة، أصدر بشكل مُفاجئ عام 2011 رواية بوليسية بعنوان «رقصة في الهواء الطلق».
لم تكن رواية بوليسية صادمة ولا من النوع الذي يركض خلف أبسط التفاصيل، بل جاءت وفق منحى كلاسيكي، لكنها رواية ناقدة، ناقمة على الوضع، رواية الخيبة مما آلت إليه الجزائر، تضج بالرمزيات والمجازات. ماذا يدفع كاتباً انشغل طويلاً في تقفي التاريخ الحديث لبلده، في كتابات تميل إلى التوثيق، إلى اللجوء إلى حبكة بوليسية؟ لا بد أنه شعور بتحرر نسبي، بأن الحرية بدأت تتسع قصد البوح بما عجز عنه في تجارب سابقة، فالشرط الأساسي في كتابة رواية بوليسية، أن يتمتع كاتبها بنصيب من الحرية، وهو شرط تعذر تحققه في الجزائر في وقت سابق.
مرزاق بقطاش (1945 ـ 2021) الذي غادرنا يوم السبت الماضي، يمثل نموذجاً مهماً في تتبع مؤشر الحرية في الأدب الجزائري، فعلاقته بالكتابة وتطوراتها تحيلنا إلى فهم تغيرات شرط الحرية في ذهنية المبدع، كيف بدأت ضيقة جداً عقب الاستقلال (1962) شبه مستحيلة، ثم توسعت، لكنها لم تبلغ منتهاها بعد، وفي كل مرة يتقدم فيها المبدع خطوة إلى التحرر، فلا بد أن تكون دماء قد سالت، وأن بشراً قد دفعوا ثمناً، كي يبلغ الكاتب في الأخير مرتبة تعسر عليه بلوغها في إصداراته السالفة.
حين بدأ مرزاق بقطاش الكتابة والنشر، منتصف السبعينيات، وجد نفسه منخرطاً في ما أطلق عليه الجيل الثاني من كتاب العربية في الجزائر، ذلك الجيل الذي بدا عليه التشنج منذ الوهلة الأولى، منتصباً على أرض لغوية متحركة، غير ثابت في خياراته إما الكتابة بالعربية أو الفرنسية، لكن بقطاش حسم الأمر مبكراً، آثر العربية للإبداع، مكتفياً بالفرنسية لمقالات صحافية، شرع قاصاً وانتهى روائياً، ما بينهما خاض في الترجمة، لاسيما ترجمة روايات بوجدرة، لم يكن خياراً أدبياً بل نضالياً، فروايات بوجدرة في صرامتها واستفزازها، أتاحت له هامشاً يتنفس فيه، ترجمتها كانت بمثابة إعادة كتابة ـ بالنسبة له ـ أن يُعيد كتابة ما عجز هو نفسه عن قوله، خشية سطوة الرقيب، لم يكن مقتنعاً بخيارات الساسة، الذين أوصلهم الاستقلال إلى الحكم، حافظ على قناعته الماركسية غير راضٍ بالاشتراكية الرسمية، ولا بما تلاها من خطابات رنانة عن ثورات ثقافية أو زراعية أو صناعية، لم ينسق إلى معارضة فجة، ترد على الشعار بمثله، بل اختار الصمت، بدل الانخراط في جوقة المهللين للنظام، كما فعل العديد من الكتاب المحسوبين على الجيل الثاني مثله.
نجا مرزاق من طوفان التسعينيات الدامي في الجزائر، أصابت رصاصة الإسلاميين صدغه، كتب له القدر حياة أطول، لكنه كاد يفقد صوته، ثم بصره، خف كلامه بدون أن يتوقف قلمه عن الكتابة، وعن مصارعة الوحوش الذين حولوا يوميات البلد إلى كابوس.
انزوى إلى ركنه في الصحافة، يكتب عما يصدر في الجزائر وخارجها، ولا يظهر إلى السطح سوى عندما يصدر له كتاب جديد، وقد لا نجانب الصواب إن قلنا إن الراحل كان من بين الذين أنقذوا القصة القصيرة الجزائرية من ترهلها (يمكن ملاحظة ذلك في مجموعته «المومس والبحر») رفع سقفها ووضعها في مرتبة تنازع فيها الرواية، غامر إليها مثلما كان يغامر إلى البحر صغيراً، فهذا الأمازيغي، الذي عاش متنقلاً في قراءاته بين ثلاث لغات، مولعاً بالتراث العربي، مستثمراً في تاريخ حرب التحرير، مستحضراً طفولته، ومصرا على توثيق طبوغرافيا العاصمة في كتاباته، كتب القصة القصيرة بفنية يحسدها عليها من هم من جيلها، الذين طغت عليهم الأيديولوجية في مقارباتهم للأدب. لقد جعل في كثير من نصوصه سيرته الذاتية في تلاقح خلاق مع تاريخ بلده، انكفأ على نفسه، وعلى ذكرياته في نتاجاته، بدون أن يبالي بخط مباركة النظام وثوراته المناسباتية، التي تحولت في السبعينيات ومطلع الثمانينيات إلى مادة خصبة في الأدب الجزائري حينها. لقد استوعب صدامات تلك المرحلة فنياً في روايتي «طيور في الظهيرة» و«البزاة» يُنبه القارئ إلى أن أفضل تعامل مع واقع متحرك هو التعامل معه جمالياً. ظل مرزاق بقطاش وفياً لمقولته إن الكتابة عبادة، خلوة كاتب مع نفسه، منقطعاً عن ضجيج الراهن الذي يسبح فيه.
يبدو أن التحول الأكبر في تجربة الراحل بدأ مع أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988، حين خرج الشباب من صمتهم المرضي في مواجهة قمع الآلة الرسمية، كان حينها يُقيم على بعد أمتار قليلة من مسرح الدم، كان صحافياً منشغلاً بما يحدث، والتقط آنذاك حصته الأولى من الحرية، التي حرم منها وغيره من الكتاب قبلاً، أدرك أن الوضع السياسي قد تغير، وأن الرقيب قد شاخ، فأصدر رواية «عزوز الكابران» كانت تلك لحظة تحول في حياته، سوف يستثمرها أدبياً، يتقلص حضور حرب التحرير في نصوصه وينتقل إلى مقارعة حاضره.
نجا مرزاق من طوفان التسعينيات الدامي في الجزائر، أصابت رصاصة الإسلاميين صدغه، كتب له القدر حياة أطول، لكنه كاد يفقد صوته، ثم بصره، خف كلامه بدون أن يتوقف قلمه عن الكتابة، وعن مصارعة الوحوش الذين حولوا يوميات البلد إلى كابوس، وطرأ عليه سؤال الموت، الذي خيم على روايته «دم الغزال» حيث نقرأ: «الدم يسيل كل يوم في بلادي، ومجرد كتابة كلمة الدم على الورق ينبغي أن تكون كافية لكي تشكل فناً قائماً بذاته» مصراً على حقه في الكتابة كما كان دائماً، بدون أن يغفل عن متابعة كل ما يصدر، بما في ذلك أعمال كتاب شبان، منهمكاً كعادته في استعادة التراث العربي، ففي آخر مجموعاته القصصية «آخر القعدات» أراد ما يُشبه «قعدة» مع القارئ في استعادة موضوعاته الأثيرة عن الجزائر العاصمة وأحوالها الاجتماعية والسياسية، لم يتوقف عن الترجمة مع أنه لم يصدر ما ترجمه في السنوات الأخيرة، مكتفياً في أعوامه الأخيرة بالرواية، وهو الذي انسحب من منصات التكريم، رضي قبل ثلاث بتسلم جائزة آسيا جبار، التي عاشت مثله مفضلة الاقتراب من الراهن جمالياً لا إيديولوجياً، عبرت البحر وأقامت في فرنسا، بينما بقي مرزاق بقطاش قبالة البحر، في ضفته الجنوبية، ينظر إليه لا رغبة له في أن يتخطاه، يتفقده كل يوم مثل قرصان يفتقد غنائمه.
روائي جزائري
{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة : 156]
انتقل الى رحمة الله الروائي الجزائري مرزاق بقطاش. رجل المواقف وناصر اللغة العربية والثقافة العالمية.