إنّه مديحُ الشوق الذي لا ينتهي بالنسبة للشاعر الفرنسي آرثر رامبو، الذي زفّ عمره قرباناً لديوان فريد كتبه ثمّ انسحب من الميدان راضياً وكأنّه اختصر المشاعر والمنابر فيه، وأثبت أنّ التعبير نفق مرور لماهيّة الكون في ميتافيزيقيا زاهية لا تحجبها عن البصيرة أستار وأدغال، وأنّ القصيدة انكسارٌ لحظيّ يوجز العمرَ في بارقة من الخواطر التي تستحثّه وتجتذبه للتغريد في دنيا الفقراء، الذين وجد في نفسه القوّة ليضاهي قوّة المسيح في وصفهم والتعبير عن آلامهم وأتراحهم في تيّارٍ منسابٍ من الأفكار الوجدانيّة الحالمة.
رأى رامبو أنّ الشاعرَ هو ظلالٌ للأوتار الحالمة بالأبديّة، يمنحُ النسيمّ لحبيبته لو شاءت، وجزّأ نفسه بين الراوي والحالم، فانبثقت منه قوّة غريبة تشبه التجديف في بحرٍ متلاطم الأمواج واسع المدى، لكنّه عميق الغور إلى حدّ مخيف، حتّى اكتشف أخيراً لغة التنافر المتناسق في لغة الأضداد واستطاع أن يهب عبقريّته في الكلمات التي صاغها بأسلوب متفرّد ينطق بالتمرّد والانقياد في آنٍ معاً.
لقد أغرى رامبو التعبيرَ نفسه بصمته الناطق في القصائد التي تلوّت بين أنامله بين ناقد ومنقود، وحاسد ومحسود، وصنع منها مدينته الفاضلة التي لم يكتشفها جميعها المنقّبون في عالم الشعر والأدب حتّى اليوم، فهو الذي يمقت التقليد والتجويف والتحريف، ومن أقواله: «ينبغي أن نعثر على لغة شعرية جديدة. ينبغي أن نطالب الشعراء بأن يأتوا بشيء آخر جديد، شكلاً ومضموناً، ذلك أن اختراع المجاهيل أو (اكتشاف المجاهيل بالأحرى) يتطلب منا استخدام أشكال لغوية جديدة، بمعنى آخر: فلا مضمـون جديد دون شكل جديـد».
وفي وصف شعره مأخوذاً بقدرته على الخلق والإبداع وتقرير مصير الكلمات، ومنوّهاً بالدين الإسلاميّ، ومشوّهاً لجماد الموتى في قلبه يقول «الآن انتهى الكابوس، الآن أستطيع أن أحيـي الجمال، أخيراً وجدتْ فوضى روحـي شيئاً مقدسـاً، لا كلمات بعد الآن، إنني أدفن الميّت في بطني، لقد صرت مثل المسلمين لا أؤمن إلا بالمكتوب». تميّز رامبو بكتابته البراغماتيّة العمليّة في ظلّ التراجيديا التي تعرّض لها في حياته، فقد تمزّق وجدانه لآلام الهجر والفقد، وتلوّع فؤاده في قرارٍ جذريّ اتّخذه ليحيي ويميت المحبوب في خياله، ليجد مرتعاً خصيباً في أخيلة التعابير الجازمة التي تبرق في شعره مثل الأنفاس الأخيرة التي يحتضنها صدر المنازع قبل بلوغ الشفق الأخير. وقد أترع فؤاده بالبروق وتجهّم كيانه بالشعور الانطوائيّ الحاد الذي عانى منه، وعلّله البعض بسبب قسوة أمّه اللامتناهية التي كانت رمزاً للقوّة والقسوة المفرطة.
قيثارة رامبو الرنّانة بشتّى أنواع الفلسفة والتعمّق في تراتيل ربّاتِ الإلهام اللواتي وصفهنّ في شعره ينتشين من حرارة الشّمس، اجتذبت وراءها كلّ من أحبّ الشعر وأدمنه، وسار معها خاشعاً خشوع العاشقين، معلناً بأنّه بات من الضالّين في عالمٍ سحريّ لا يحتملُ أيّ تأويل.
لم يزعزع أحدٌ صخرة الكآبة عن قلمه، ولا استطاع حبٌّ عاشه أن يغيّر تقلّب مزاجه الدائم، لقد عاش رامبو ليطالبَ بالقيمة الجماليّة والعناية الإلهيّة والتمرّد الوجداني للقصيدة والتقمّص الكامل للحريّة. في قصيدة «إحساس» يترنّمُ بحسّ دافئٍ قائلاً:» في أُمسيات الصيفِ الزُّرقِ، سأمضي عبرَ الدروب، موخوزاً بالقمح، سأدوسُ على العشبِ النّاعم، حالماً، سأُحس بنداوته على قدمَيّ. سأدَع الريحَ تغسلُ رأسي العاري. لن أتكّلمَ، ولن أفكّرَ بأيِ شيء، لكنّ الحبَّ غيرَ المتناهي سَيتصاعدُ في روحي، وسأمضي بعيدا، بعيدا جدّا، كمثْلِ بوهيميّ، عبرَ الطّبيعة- سعيدا كما لو معَ امرأة».
هذا الإحساس الأفقي العملي الذي يتصاعد رويداً رويداً ليمسّ طلاسم الرّيح ويخترقَ حجب العدم يختزل السيريالية التي عاشها رامبو بإحساسٍ سيرياليّ ينتفضُ شوقاً للطبيعة الحاضنة لكلّ ما هبّ ودب، لأنّه عاشقٌ لها يشعر بأنّه يستمدُّ منها مهابة الوجد وصلابة العنفوان كما لو أنّها أنثى ترفلُ بالأنوثة الزاهية. ومن جهة أخرى، يظهر لنا رامبو الصوفيّ في شعره الصوفيّ المتأثّر بالفلسفة الإشراقية التي تظهر مثل أنوار إلهية، حالمة في عالمه الخاص، فيلتحم التحاماً واضحاً بالعهد الوثني، حيث كان الإنسان جزءاً بريئاً من الطبيعة يعيش فيها بفطرته وغريزته، ويتغنّى بخبايا الأساطير، ويتكنّى بعرائس الماء وعروق «الإله بان» الذي هو في الميثولوجيا الإغريقيّة إله الحقول والرعيان، حيث يقول في قصيدة «الشمس والجسد»: «إنني أرثي عهود الشبابِ الأقدم، عهود الستيرات الشبقة والآلهة الوحوش، آلهة كانت تعضُّ عن حبّ لحاء الأغصان، ووسط عرائس الماء تعانق الحوريّة الشقراء، أرثي أزمنةً كان فيها نسغُ العالم، ومياهُ الأنهار والدّمُ الورديُّ دمُ الأشجار الخضر، في عروق الإله بان يودعون كونا!».
هكذا ينسابُ شعرُ رامبو مثل زهرةٍ يضمّخها الوله ببخور الياسمين، يؤطّر ويسطّر ويطرح ويزيد كلّ احساسٍ عابر، لا حدود لتماهيه مع المحسوس والملوس، يستنزفُ عوالمه السائرة في تلوّث هذا العالم، يتساءل إن كان الإنسان قادراً على الاعتراض، أو الاقتراض من صوت الحلم، أو رمز الحلم فيقول حائراً: «هل صوتُ الفكر أكثر من حلم؟ ولئن كان الإنسان باكراً يولد، ولئن كان العمرُ بمثل هذه الوجازة، فمن أين تراه يأتي؟».
في قصيدة «الحدّاد» يسعى رامبو إلى تأخير الفاعل قدر استطاعته كي يختزن جوّ الإثارة والترقّب في قصيدته ويعطي انطباعاً متخيّلاً عن عيشة الفقراء المخزية، وحظّهم الرديء المشحون بالترسّبات الشقيّة، ويصف فيها الحدّاد قائلاً:» مُمسكاً بمطرقةٍ عملاقة، مفزعاً، من النشوة والعظمة، مديدَ الجبهة، ضاحكاً كمثْلِ بوقٍ من البرونز بملء فيه، مُلتهماً ذلك البدين بنظرته الشرسة، كان الحدّادُ يخاطبُ لويسَ السادسَ عشرَ ذات يوم، والشعبُ كان يتلوّى حولهما، وعلى زخارفِ الذهبِ يجرجرُ سُتَرَه الوسخة».
قيثارة رامبو الرنّانة بشتّى أنواع الفلسفة والتعمّق في تراتيل ربّاتِ الإلهام اللواتي وصفهنّ في شعره ينتشين من حرارة الشّمس، اجتذبت وراءها كلّ من أحبّ الشعر وأدمنه، وسار معها خاشعاً خشوع العاشقين، معلناً بأنّه بات من الضالّين في عالمٍ سحريّ لا يحتملُ أيّ تأويل.
عاش رامبو وماتَ على الصراط المستقيم للشعر، يصفُ الأفئدة المصطرعةَ على الأعتاب الورديّة، وقد سار تحت حاشيةٍ من الضباب الشفّاف الذي ينزف المطر من طيّاتٍ مشاعره ويطلب التجديد الدائم لملكوت الشعر.
كاتبة لبنانية