«آصرة: تاريخ موجز لشبكات المعلومات منذ العصر الحجري وحتى الذكاء الاصطناعي» هو عنوان الكتاب الجديد من الأكاديمي والمؤرّخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري؛ وصدر مؤخراً بعد «العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري»، و»الإنسان الإله: تاريخ موجز للغد»، و»21 درساً للقرن الحادي والعشرين». وهذه أعمال تُرجمت إلى عشرات اللغات وبيعت منها نسخ بالملاين، فشكّل هراري ظاهرة فريدة، وحوّله البعض إلى مرجع وحيد يسير على ثلاث أقدام/ مؤلفات، تغطي 70,000 سنة من تاريخ الإنسان، خَلْقاً وخُلُقاً ومعرفة وفلسفات وعلوم ومنجزات وحضارات…
وهذه السطور، كما في مناسبات سابقة على صلة بحيثيات مماثلة، لا تستهدف مساجلة أفكار هراري، ولا حتى تسجيل سلسلة تحفظات مناهضة تنطلق جوهرياً من قناعات شخصية بصدد تاريخ النوع البشري، وتنهض على حقّ الاختلاف، أياً كانت مقادير الاستنكاف عن مقارعة الحجة بالحجة على مستويات علمية بيولوجية أو أركيولوجية. فليس المرء بحاجة إلى تفقّه واسع في علوم الإنسان والنشوء والارتقاء، وسواها كثير مما يلهج به هراري ويزعم علوّ الكعب فيه؛ حتى يعثر على تفسير كافٍ ومكتفٍ بذاته خلف خلوّ الترجمة الروسية لكتابه «21 درساً…» من الفقرات التي تستعرض أكاذيب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كما وردت في الأصل العبري للكتاب، مثلاً.
وفي هذا المؤلف الجديد يلوح أنّ هراري يعتزم السير على «قدم» رابعة، تغطي كامل تاريخ البشرية مع الميادين المعلوماتية كافة؛ ومن هنا مفردة العنوان الأولى، Nexus، حيث المقابل العربي «آصرة» قد لا يفيها حقها تماماً؛ إذا شاء المرء الرجوع إلى قاموس أكسفورد، الذي يقول التالي في تعريفها: «سلسلة معقدة من الروابط بين أشياء مختلفة». الأمر الذي لا يجهد هراري في مقارعته أو التشاكل معه، إذْ يكفيه أنها صلة اجتماعية تساعدنا في فهم جوانب عديدة من التاريخ الإنساني «تختلط فيها النظرة الساذجة إلى المعلومات مع تمثيلات الواقع»، كما يقول في الفقرات الأولى من الكتاب.
فإذا كانت وظيفة المعلومات الأولى هي تمثيل الواقع بدقّة، فمن الصعب والحال هذه تفسير السبب في أنّ «التوراة أصبحت النصوص الأكثر تأثيراً على امتداد التاريخ»؛ كما في سفر التكوين مثلاً، حيث جميع البشر (بمَن فيهم أناس صحراء كالاهاري أو الأقوام الأصلية في أستراليا) تحدروا من عائلة واحدة قطنت الشرق الأوسط قبل 4,000 سنة. أو حسب السفر ذاته، وبعد الطوفان، عاش نسل نوح في بلاد ما بين النهرين حتى خراب برج بابل، فتفرّقوا بعدها في أربع رياح الأرض، وباتوا أسلاف البشر. ولكن، يذكّر هراري، سكان أفريقيا سكنوا في أصقاعها مئات الآلاف من السنين، وأجداد أقوام أستراليا الأصلية استقروا فيها أكثر من 50 ألف سنة خلت.
خلاصة هراري، عند هذا الاستهلال المبكر من تشخيص شبكات المعلومات، أنّ أخطاء التوراة الكثيرة، بصدد تمثيل الواقع الفعلي للسكنى والنزوح والتنقل وتواريخ البشر الزمانية والمكانية، لا تطمس حقيقة أنّ الأسفار كانت «عالية الفاعلية في الربط بين مليارات البشر، وفي إنشاء الديانتين اليهودية والمسيحية». على منوال متقارب، يتوخى التنويع أساساً وليس استقراء مقاربات جديدة، يرصد هراري الأدوار التي لعبها أباطرة وساسة وبابوات وحاخامات في ترسيخ المعلومة بعد إشاعتها، على نحو يجعل منهم شبكات لا تنأى وظائفها كثيراً عن أدوار الإنترنت المعاصرة: «1,4 مليار عضو في الكنيسة الكاثوليكية تربطهم التوراة وسواها من القصص المسيحية»؛ ومثل عددهم في الصين، تحرّكهم «قصص الأيديولوجيا الشيوعية والقومية الصينية»؛ و8 مليار عضو في شبكة التجارة يترابطون حول «أقاصيص العملات، والشركات، والعلامات المسجلة»…
ليس خارج هذا السياق العامّ، المعمم مراراً وتكراراً وإنْ اتصف بطرافة خاصة ومغزى دفين أو مبطّن، ما يسرده هراري عن نموذج سارة آرونسوهن (1890 ــ 1917)، الناشطة الصهيونية/ الجاسوسة البريطانية خلال مراحل الصراع بين الإمبراطورية العثمانية والتاج البريطاني في فلسطين، مطلع القرن العشرين وخلال الحرب العالمية الأولى. كانت شبكة التجسس التي انتمت إليها آرونسوهن تدعى NILI، مختصر الأحرف العبرية الأولى من سفر صموئيل الأول، 15ـ29: «نصيح إسرائيل لا يكذب». وتكنيك نقل المعلومات الأول الذي اعتمدته كان فتح نوافذ الدور المواجهة للبحر أو إغلاقها، حسب شيفرات متفق عليها مع البحرية البريطانية؛ والتكنيك الثاني كان استخدام الحمام الزاجل، الذي كشف الشبكة حين عثر العثمانيون على رسالة مشفرة رُبطت إلى قدم إحدى الحمامات.
ولأنه حريص على تسجيل حدّ أدنى من «الرصانة» في تفكيك التاريخ الشعبي، أو الشعبوي، الصهيوني الذي يقول إنّ زاجل الصهاينة هو الذي مكّن بريطانيا من دحر العثمانيين في معركة بئر السبع، تشرين الأول (أكتوبر) 1917؛ فإنّ هراري يكتفي بتمجيد هذا السبق الذي سجلته آرونسوهن في ميادين شبكات المعلومات؛ سواء بفتح نافذة أو إغلاقها تارة، أو بإطلاق حمامة هنا أو هناك تارة أخرى. وسوى جاذبية الحكاية في ذاتها، يعفّ هراري عن سرد أيّ من «الخرافيات» (كما كان الراحل إميل حبيبي سيردّد) التي اقترنت بشخص أرونسوهن؛ بما يكشف سوأة الكثير من مقاربات الكتاب الجديد، ويُدنيه أكثر فأكثر من ميثولوجيا صهيونية يزعم هراري أنه لا ينضوي إلى صفّها.