لا تزال النشريات العلمية (سواء اختصّت بالعلوم الصرفة أو بالسياسات العلمية وتأريخ العلوم وفلسفتها) نادرة قليلة الرواج في عالمنا العربي، وتلك حقيقة مشهودة على الأرض، ولا أحسب أنّ كثيرين سيجعلون منها مادة إشكالية، ولعلّ السبب الأعظم وراء هذه الحقيقة يعود إلى أنّ بيئتنا لم تتعامل مع العلم إلا من جانبه البراغماتي الخاص بالمصنّعات التقنية، التي تتيحها التطبيقات العلمية المتواترة بلا انقطاع؛ لكنّ العلم – فلسفة وأفكاراً وشخوصاً خلاقة – لم يزل يُنظّرُ إليه باعتباره بناءً فوقياً تختصّ به النخب ذات الاختصاص العلمي الضيق، بعيداً عن ملامسة نبض الثقافة الجمعية.
إذا ما وضعنا هذه الخلفية في اعتبارنا، سنعرف مدى الجهد الطيب الذي أقدمت عليه لطفية الدليمي، الكاتبة والروائية والمترجمة، عندما شاءت أن تساهم في الجهد المعرفي التنويري في بيئتنا العربية، خاصة في حقلي العلم والفلسفة، وقد جاء كتابها المترجم المنشور حديثاً تحت عنوان «آلان تورنغ: مأساة العبقري الذي غيّر العالم» عن دار المدى العراقية، إضافة أراها نوعية مميزة في تعريف القارئ العربي بأحد أهمّ الشخصيات العلمية العالمية، الذي ساهم في إرساء القاعدة النظرية للحاسوب، فضلاً عن مفاهيم الذكاء الاصطناعي التي نشهد مفاعيلها الثورية في أيامنا هذه .
يمتاز هذا الكتاب بميزتين: الأولى هي قِصَرُ فصوله إلى الحدّ الذي يمكّن القارئ العربي غير المتمرّس بقراءة المطوّلات العلمية، متابعة القراءة من غير ما شعور بالضجر. أما الميزة الثانية فهي تركيز الكتاب على الجوانب العلمية في سياقها الإنساني والشخصي الخاص بِآلان تورنغ عوضاً عن الانغماس في تفاصيل علمية معقدة، يمكن للقارئ الشغوف أن يقرأ عنها في كتب أخرى بعد أن يتشرّب بالقليل الضروري من العُدّة المفاهيمية اللازمة لمتابعة هذه الموضوعات وأمثالها. أرى أنّ جذب القارئ لمتابعة هذه الموضوعات العلمية يمثّل جهداً محموداً يستحقّ عبء الجهد المبذول فيه، وينبغي تشجيعه وإشاعته لدى أوسع طائفة من القرّاء، لأنه بمثابة المنصّة الرافعة التي يعوّلُ عليها لإشاعة أساسيات الثقافة العلمية والتقنية، وإلقاء الضوء على الجوانب المجتمعية والفكرية المرتبطة بها.
مهّدت المترجمة لكتابها بمقدمة ممتازة جاء في مفتتحها: «نعيش اليوم وسط أجواء ثورة باتت تدعى (الثورة المعلوماتية) التي تشكّل المعلومات والحواسيب جوهرها، وليس ثمة شك في أنّنا سنشهد بعد سنوات قليلة المظاهر الأولى المبكرة لعصر ما بعد الإنسانية، ولعل القليل منا يتفكّر ملياً في الجذور الفكرية والمفاهيمية لهذه الثورات العظمى في تأريخ الجنس البشري، وقد يعود السبب إلى أنّ قلّة من البشر في أنحاء العالم تستأنس في البحث عن تأريخ الأفكار والمفاهيم والانعطافات الفكرية الثورية في تأريخ البشرية؛ إذ المعروف أنّ غالبية البشر تعمد إلى تطبيق ما يُتاحُ أمامها من ممكنات تقنية من غير أن تشغل نفسها بالبحث في (الأصول الأولى) التي قادت العالم ليكون على الشاكلة التي بات عليها في وقتنا الحاضر».
ثمّ تسوّغ المترجمة ترجمتها لهذا الكتاب من خلال العبارات التالية :»يمثّل البحث في حياة الرياضياتي والعالم الحاسوبي البريطاني الفذ آلان تورنغ مثالاً قياسياً لما ينبغي أن يكون عليه البحث في الأصول الأولى، التي أدت إلى تشكيل العالم الحديث في جانبيْن أساسييْن منه: جانب الحاسوب وجانب الذكاء الاصطناعي، وإذا ما أضفنا لهذه الحقيقة حقيقة أخرى بشأن الجانب الدرامي (المأساوي) الذي انطوت عليه حياة تورنغ، فستتكشّف أمامنا خلفية المشهد العالمي الذي شهد بواكير الثورة الحاسوبية والمعلوماتية، وتطوير الآلات المفكّرة (التي عمل عليها آلان تورنغ في سياق ما أطلق عليه آلة تورنغ الشاملة) .
يمتاز هذا الكتاب بميزتين: الأولى هي قِصَرُ فصوله إلى الحدّ الذي يمكّن القارئ العربي غير المتمرّس بقراءة المطوّلات العلمية، متابعة القراءة من غير ما شعور بالضجر. أما الميزة الثانية فهي تركيز الكتاب على الجوانب العلمية في سياقها الإنساني والشخصي الخاص بِآلان تورنغ
يعقب المقدمة الثرية في الكتاب، تعريف بمؤلفه جِم إليدرِج، وهذا تقليد جميل عُرِفت به الدليمي، ثم يأتي متن الكتاب الذي يحتوي على سبعة عشر فصلاً تتناول بواكير حياة، آلان تورنغ وتلقي أضواء على طبيعته العقلية والسايكولوجية التي مثّلت إشكالية مزمنة لأساتذته في المدرسة والجامعة (وهل نتوقّع غير هذا من عبقري؟)، وبدا واضحاً في الكتاب ميل تورنغ للحلول الحدسية التي لا تسعى وراء تقديم المبرهنات الرياضياتية التقليدية، بالكيفية التي يعهدها الرياضياتيون التقليديون. تتناول الفصول الباقية من الكتاب المسار الأكاديمي لتورنغ في جامعة كامبريدج العريقة، ثمّ توظيفه للعمل في مركز بليتشلي بارك السري الخاص بكسر شيفرة (إينيغما) الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، والجهود العظيمة التي بُذِلت لإنجاز هذه المهمة الملحمية التي ساهمت في تقليل مدة الحرب العالمية الثانية، بما لا يقلّ عن ثلاث سنوات كما جنّبت بريطانيا ذلّ الوقوع أسيرة المجاعة، ومن ثمّ الاستسلام الشامل للنازيين بفعل هجمات الغواصات الألمانية على سفن المؤونة المتوجهة لها من الولايات المتحدة الأمريكية.
يتابع الكتاب في فصول محدّدة عمل تورنغ في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية على تطوير الذكاء الاصطناعي، ولعلّ (اختبار تورنغ) صار أحد الخصائص المميزة والشائعة على نطاق واسع، لمعرفة مدى كفاءة أي نظام حاسوبي واقترابه من تخوم الذكاء الطبيعي. ثمة أيضاً فصل مثير في الكتاب جاء بعنوان لافت هو (أعداد فيبوناتشي والنظام في الكون) يمثّل الولع الذي أبداه تورنغ في دراسة النظام الرياضياتي الدينامي المعقد، الذي تنطوي عليه النظم الأحيائية – ذلك الولع الذي تطوّر لاحقاً ليشكّل مبحثاً علمياً راسخاً هو (علم الأحياء الجزيئي).
غادر تورنغ الحياة في واقعةٍ تعدّ انتحاراً بسمّ السيانيد عام 1953 بعد سلسلة من المكابدات المأساوية الشخصية في حياته، وإنّه لأمرٌ مدهشٌ حقاً أن نتفكّر ملياً في ما كان يمكن لآلان تورنغ أن ينجزه، والانعطافات الثورية في علوم الحاسوب التي كان يمكن أن يحققها، لو أنه لم يفارق الحياة في تلك السنّ الصغيرة نسبياً والتي لا تتعدّى الواحد والأربعين عاماً.
يختتم الكتاب بفصل عن ميراث تورنغ، نقرأ فيه العبارات الملهمة التالية: «امتلك تورنغ الريادة في موضوع (الآلات المفكّرة)، وطوّر بالفعل نماذج بدائية من آلات تتحدّث الكلام البشري المنطوق وتفهمه، كما حقق تطويرات مهمة في ميدان الذكاء الاصطناعي، ودفع علوم الحاسوب لآفاق بعيدة ساعياً في نهاية المطاف إلى تحقيق هدف لم يكن يعلمه أحد سواه.
ما عساه يكون ذلك الهدف المرتجى؟ أهو حاسوب بشري – عضوي هجين؟ أم آلة تصمّم نفسها وتنتج نسخاً مطوّرة منها؟» أثرت المترجمة الكتاب بملحقين ممتازين: يضمّ الملحق الأوّل قائمة بأعمال منتخبة تناولت حياة آلان تورنغ وأعماله، في حين يضمّ الملحق الثاني قائمة بأهمّ الأفلام التي تناولت حياة آلان تورنغ .
٭ مهندس ومترجم من العراق