من المستغرب جدا، ونحن في ثورة الإعلام الرقمي ووفرة وسائل التواصل الاجتماعي وانسيابية طرق النشر، ودعوات التحرر الكبرى والصغرى، نجد مجموعة من الكتاب الشباب الذين يلتفون حول أسماء لامعة وبارزة لتكون المعادلة بكل وضوح، إمتدحني أقدم لك منصة تنطلق منها.
ومن أكثر الأشياء غرابة، إن التاريخ الإنساني شهد حالات كثيرة يخوض فيها المثقف في العالم أجمع، وفي الوطن العربي على وجه الخصوص، معركة شرسة ودامية وعنيفة من أجل التعبير عن رأيه، جنى منها ما جنى من التعذيب والتشويه والمنع والإقصاء وحرق الكتب، إلى النفي والقتل، دفاعا عن الحرية الفكرية في تطرقه لواحدة من التابوهات الثلاثة: السلطة، الدين والجنس. لقد حقق المثقف في الغرب حق التعبير والبوح والاعتراف والاكتشاف، والنقد المستاء من تردي الأوضاع، كما حقق المثقف في الوطن العربي حرية نسبية بعشريات ماضية إلى الآن يتبناها مثقفو اليوم في العالم العربي. ولكن هذا المثقف الذي يرث هذه التركة الثقيلة، ويرددها دوما بالملتقيات الثقافية والكتابات المختلفة، لا يلبث أن يصنع له أصناما فكرية، وآلهة جددا يقدسهم ويعبدهم، ولا ينطق إلا من خلالهم، يتركون العبادات الروحية ويترفعون عن سلطة الدولة والقبيلة، ليرتموا في أحضان آلهة الثقافة الجدد، وكل شخصية عاملة في الثقافة ولديها منبر ووهج إعلامي، يصبح عندهم هو الأصح والمطلق والمقدس الذي لا يسمح لأي شخص ما حتى أن يقول: جيد ما تفعله ولكن ينقصه كذا وكذا، ليصبح المثقف العربي اليوم، إلها من كلمات، وليس تمرا، وتسقط شعارات الحرية والاختلاف والتعدد وقبول الآخر في حضيض التجربة اليومية المعاشة. بالطبع، وأنا انتقد الوضع هنا، يجب عليّ أن أؤكد إن تراجع منسوب الحريات في الوطن العربي بسبب ما يسمى بأزمة الربيع العربي أو الخريف العربي، والتفاف الشعوب العربية حول السلطات القديمة خوفا على انهيار النظام والدولة والأمن والأمان، جعل المثقف العربي يرضخ للوضع الراهن، ويعيش دور الرعية الثقافية لمثقفي الصف الأول، ويخضع لهم مطبلا لهم ومتغنيا ومعجبا بما يقدمونه حتى يصل صوته، أو حتى بالكاد يحصل على اعتراف ممن يسمونهم «ماما» و»بابا». وهذا يقودنا إلى مناقشة فكرة هارولد بلوم، فرويد الأمريكي، في تطبيقه مفهوم «العقدة الأوديبية» الفرويدية تميزا لها عن اللاكانية والجيجيكية، على جيل من الشعراء الذين يقعون ضحية التقليد والمحاكاة، ولا يخافون الشبه ولا يفكرون في خلق أصواتهم الحرة والمتفردة الخاصة بهم. يرى بلوم أن شكسبير قد ترك أثرا كبيرا على الشعراء، بحيث أن من بعده وقع في فخ محاكاته وتقلــــيده، ولذا يوجه بلوم النصح لهم قائلا: «يجب على الشعراء أن لا يبدوا مثل آبائهم.
يرى بلوم أن شكسبير قد ترك أثرا كبيرا على الشعراء، بحيث أن من بعده وقع في فخ محاكاته وتقلــــيده، ولذا يوجه بلوم النصح لهم قائلا: «يجب على الشعراء أن لا يبدوا مثل آبائهم.
وقلق التأثر في أغلب الأحيان يختلف تماما عن قلق الأسلوب، وبما أن التأثر الشعري هو بالضرورة قراءة ضالة، استقبال أو سوء تعامل مع هذا العبء، سيكون من المتوقع أن تخلق هذه العملية من سوء التشكيل والتأويل الضال على أقل تقدير انحرافات في الأسلوب في ما بين الشعراء الأقوياء».
إذا كان بلوم يتحدث عن تجربة شعراء القرن الثامن عشر والتاسع عشر، فإنه عار على جبين الألفية الثالثة ونحن في بدايتها، وخزي لمسيرة المثقفين العظام الذي عانوا من أجل ترسيخ أفكار إنسانية جريئة وخلاقة، أن يكون التيار الأعظم مقلدا ومتأثرا بجيل الآباء هذا التقليد الرديء، سواء بأسلوب الكتابة الأدبية، أو بسلوكهم وتعاملهم الشخصي مع بعضهم بعضا. مثلما تبين دورثي براندي في كتابها المهم «لياقات الكاتب»: «فكرة لعب دور القرد المثابر متغلغلة لدرجة كبيرة وليس فقط في محاكاة الأسلوب الأدبي، ولكن تمتد المحاكاة لتشمل فلسفة وفكرة التيار الأدبي السائد للمؤلفين، وهو أمر مستشر جدا لدى الكثير، لدرجة إيمانهم بأنهم يصبحون كتابا مميزين وذوي أصالةعن طريق عملية المحاكاة».
أنا لا اتحدث عن ضرورة نقد الدولة والدين هنا، ولكن أتحدث بشكل دقيق وواضح جدا، عن تأليه المثقفين الشباب للمثقفين المعروفين في الأوساط الثقافية، هذا ما أعنيه بالضبط في هذه المقالة. كما أوجه لطلبتي في جامعة الكويت والمثقفين الشباب الذين مازالوا يخطون الخطوات الأولى على سلم الحلم، ستصلون في يوما ما، سواء سرتم سير السلحفاة البطيء، أم حلقتم على أجنحة الحلم والمخيلة بسرعة ضوئية. ولكن، أنتم، كما تعلمون جيدا، إن وسائل التواصل الاجتماعي، قوضت سلطة قنوات الإعلام التقليدية، وبإمكانكم الوصول ونشر أعمالكم من خلال تويتر، والفيسبوك، والمدونات واليوتيوب، والجيد سيفرض نفسه في النهاية، فالأمر لم يبق محصورا بوسائل الإعلام التقليدية كما يبين (Chadwick): «وسائل الإعلام التقليدية والنخبة السياسية إلى الآن قوية في التأثير في متابعة الأخبار، رغم أن الفاعلين من غير النخبة يشاركون بشكل متزايد في صنع الأخبار في وسائل الاتصال. وهذا الاندماج بين الاثنين يخلق تفاعلا يبني بين ناشطي مواطني وسائل التواصل، ويخلق تنوعًا في المصادر المؤسِسِة للخطاب الشعبي العام». طرق النشر اليوم أصبحت أكثر سهولة ومرونة، ولكنكم بحاجة لعدد من الأدوات، القراءة والاطلاع، والقراءة في فنيات الجنس الأدبي، والقراءة في النظريات المعرفية والجمالية والنقدية، والاطلاع على العلوم الإنسانية، وتبصر حركة التاريخ وموقعكم فيها. ولتكون القاعدة: «وحده الشاعر والروائي يتحدى الشاعر كشاعر والروائي كروائي، وبالتالي وحده الشاعر يصنع الشاعر، ووحده الروائي يصنع الروائي». وابتعدوا عن المحاكاة التي حذرت منها دورثي براندي في كتابها سابق الذكر في سياق حديثه عن المقلد واصفا إياه بالقرد المثابر: «الرجال والنساء الذين مثلوا قدوة لهؤلاء الطلاب يكتبون من موهبة حقيقية، ومن أذواقهم الخاصة، ويتطورون ويعملون على تغيير أسلوبهم ووصفاتهم الكتابية، وبهذا حققوا ويحققون النجاح، أما القرود الصغيرة المقلدة فلن يبقى لها إلا أن تحاكي فترة زمنية منتهية وأن تبقى دائما في الخلف». (دورثي براندي، لياقات الكاتب)
٭ أكاديمية كويتية
مقالة رائعة، ونعدك بالتّطور الدائم، والمثابرة نحو الوصول للأفضل وليس الأسرع، دمتِ بخير.
صحيح جدا .. بارك الله في قلمك دكتورة