آلهة تغرق… قوارب تعرج إلى السماء

المقال.
«يا مسافر نعطيك وصايتي أدّيها على بكري، شوف ما يصلح بيك قبل ما تبيع وما تشري» كانت تلك بعض من كلمات الراحل دحمان الحراشي، التي غناها في رائعته «يا الرايح وين مسافر تروح تعيا وتولي»، كدعوة منه للمهاجرين إلى ديار الغربة للعودة إلى الأرض التي من أجلها تحررت الوطنية، فمنذ أن تغنى صاحب الصوت الجميل بـ«يا الغايب في بلاد الناس شحال تعيَا ما تجري، بـِك وعد القدرة ولّى زمان وأنت ما تدري»، لم تستطع الأغنية ذاتها من أن تستقر في وطن واحد، لقد ارتحلت كلماتها صوب الغريب في كل مكان من الجزائر إلى فرنسا وصولا إلى أمريكا، إلى أن تغنت بها أجناس وبشر، أغنية شعبية عززت فينا حب علَم كان يكابد للحصول على مواطنة فاعلة، ولكن ما من شيء يستقر على حاله.
توفي دحمان الحراشي عام 1980 بدون أن يشهد التحولات المتسارعة لواقعنا العربي/المحلي، لم تكن الغربة وحدها تسلبنا معاني الحياة والانتماء، ثمة عامل أو دافع كان سببا في تشبث جيل بأكمله بالهجرة غير النظامية، ما لم يدركه دحمان الحراشي ساعتها، مع ما كان من ألوان موسيقية غنائية ثورية ووطنية، تعيد مجد الماضي والنزعة التحررية، هو أنّ غربة الجزائري كإنسان عاش زمن الثورة الزراعية حياة بسيطة كانت اختيارا لا بديلا، مقارنة بما آل إليه الأمر الوطني والواقع الاجتماعي للجزائريين بعد أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988؛ يا الرايح وين مسافر تعيا وتولي، تدري شحال من (عباد/ساسة) غافلين، هل كان قرار عودة من نجا ساعتها من غربته الموحشة، بقدر هوس من تحْمل همسات البحر قواربهم للموت قربانا؟ كل يقرأ واقعه على شاكلته، فالموت الذي ينتظرنا بشغف، يمشي بيننا متبخترا لا مشيئة له، كأنّما يردد قول أحدهم: إنّ دماء البشرية المهدورة لا تنفك تصرخ من خلف سجف الزمان، ومن أعماق البحار، ومن شقوق الأرض… وهي تطلب الثأر.
لقد حل الخريف بأرضنا محمّلا بأوجاع كثيرة، ولربما سئم انتظاره حتى استعجلنا بمطره، فلاح في المناطق سيلا يكشف ما أفسده الإنسان، طيلة ثمان عجاف يشد بعضها على بعض، ومع رحيل فصل الصيف الذي أحرقت طلائع شمسه اخضرار الربيع، ينطلق موسمان عظيمان في بعض المناطق المحادية للبلدة، الأول عبارة عن الدخول المدرسي وانشغال العوائل بأبنائها، والثاني انطلاق موسم السياحة الدينية، التي تمجد الصالحين من الموتى، كتراث يكابد للبقاء مع موجة الإنسلاخ التاريخي، فما أحدثته تقنيات العولمة وحكامة أشيائها أخبث بكثير من سابقاتها الاستيطانية، بدءا من الكراسات التعليمية وتعدد حضاناتها، إلى تخصيص الوعدات وتقنينها كسياحة دينية، ولكن يأبى الخريف كغيره من فصول السنة إلا أن يعيد للذاكرة الثورية، أعداد المفقودين والغرقى في ظلمات البحر، الفارين من ويلات الفقر والخوف بسبب الحروب والانتكاسات الوطنية؛ لقد استفاق الجزائريون ذات صباح على خبر كانت قنوات عدة تبث عنه شريطا بلون أحمر، ما يلبث أن يذروه إشعار لبضاعة مزجاة، كان الخبر عبارة عن فقدان أكثر من خمسة شبّان في مقتبل العمر، انطلقوا في رحلتهم نحو الحلم الأوروبي عبر زورق بسيط تتقاذفه أمواج القهر والخذلان والبؤس والحرمان، قبل أن تتلقفه حيتان القعر فتسبح للذي في السماء.
هز نبأ فقدان الشبان الخمسة الرأي العام، فراح البعض يواسي أهالي المفقودين بالبحث في مواقع التواصل الاجتماعي عن بصيص أمل لهم، عساه يجد خبرا غير الذي يعتقده الجميع، كان الموج ساعة انطلاق قاربهم يصارع الصخور، لقد تقطعت السبل بذوي الضحايا، بسبب خذلان أنظمة اللامبالاة وتعزيزها لثقافة «الهشتك بشتك»، كان احتضان جثامين المفقودين أملا ينتظره الأهالي مع كل صبح. حقا.. أيّ فراق هذا الذي يصيب القلب، آباء وأمهات ينعون فلذات أكبادهم، فلا يدرون أيّ سماء تظلل جثامينهم، أهم في بطن الحوت كيما يستغفر لهم الغريب، أم في قبر غير الذي أراده لهم القريب، تلك إذن منحة لهم أن وهبهم القدير الشهادة كما أوردها نص نبي الإسلام في محكمه، وبراءة مما تغنوا به دهرا في مدارسهم وكتاتيبهم «وطني وطني»، هم وإن رحلوا عنا في غفلة من حكامنا وأولياء سياستنا، إلا أنهم يظلون أحياء، حيث لا منارة ترشد السّفن نحو المراسي الخربة، سيبقون شاهدين على ما يقترفه الإنسان من جرم في حق نفسه وأخيه وأهله، ذلكم الوطن الذي كان علينا أن نبكي عليه ونتغنى به، لا أرضا مبسوطة ملغومة تتهافت عليها غلمان المستبد، يأتي سبتمبر/أيلول كشهر متقلب المزاج، لا تعرف شمسه من سحابة صيفه، يتقلب وكله غضب مما عانته شعوبنا العربية طيلة سنوات قضتها تبحث لها عن منفذ آمن، عساها تترك في التاريخ أثرا حميدا لا آلهة، هل كان الموت قدرا كي ينكب بلعناته على هذه الأرض وحدها؟ لو كان الوضع أفضل حالا لما هاجر ولدي واختار المخاطرة بحياته، تصرخ بها أحد الأمهات.

لم يكن الموت قدرا بعينه يوما ما، ولا سببا لتحركنا أو سكوننا، بل هو حقيقة تلامس إحساسنا بالحياة، ليس له من أمر الخلق سوى مدافعتهم، ومكاشفة ذواتهم التي تتناسى قيمة ما تملك، لو كان الموت رجلا لصرعته

لم يكن الموت قدرا بعينه يوما ما، ولا سببا لتحركنا أو سكوننا، بل هو حقيقة تلامس إحساسنا بالحياة، ليس له من أمر الخلق سوى مدافعتهم، ومكاشفة ذواتهم التي تتناسى قيمة ما تملك، لو كان الموت رجلا لصرعته، إذ ما من ميت في الدنيا وذكراه تجوب الأرض، فما عساه يفعل وهو الغريب في وطنه، وصور الثائرين تتلقفها أفئدة المحبين، وترفعها أيادي الحراكيين تجوب بها شوارع عديدة، هنا حي باسم «الأمير عبد القادر» وبجانبه شارع «للعربي بن مهيدي» وآخر علّق على جدار بيت تهاوت أساساته لافتة مكتوبا عليها «ابن باديس»، ولكن هل ثمة مشكلة لو أنّ أحدا من أولئك المصفوفة أسماؤهم تباعا، أن يزاحمه أحد من مات غرقا هربا من وطنه؟ تبدو الفكرة تفسخا وسخرية أو استسهالا بما قدمته الأجيال السّابقة، ولربما يتهافت الوطنيون الجدد باتهام جيل قوارب الموت بالسّفه والضياع والتخنث والتحلل من تركة الماضي الشائبة، كان الأمير مدافعا عن أرضه وملته، ناصحا لقومه ومسددا لعشيرته، وكانت فاطمة نسومر امرأة يضرب بها المثل في الشجاعة والبأس والوطنية، وكلاهما قضى نحبه لله تقربا وحسبانا، وللوطن ثمنا وائتمانا، ماذا عن هذا الجيل الذي لا يعرف من تاريخه إلا القليل من أشعار مفدي، أو شيئا من نغم ترعاك عين ساهرة، عناوين اختارت الرحيل عن أرض آبائها وأجدادها، نحو حلم غربي، قصم ظهر وديع يوم غنّى «أرض العرب للعرب»، خرجوا يغشاهم موج من بعده موج، يظنون بالله حسن الظنونا، أفلا يستحق أولئك المغلوبون على أمرهم، شيئا من هذا العالم المتأله على نفسه، ولو قشا على ظهر بعير؟ أفلا يكفيهم أنهم ركبوا الموت بحثا عن حياة تليق بهم، عن أمل يكفّرون به سنوات التيه التي قضوها يبحثون لهم فيها عن منقذ، عن مخلص، أو حتى عن نبي ربما يبعث فيهم النهضة من جديد؟ هم اليوم يطبقون على أجفانهم كيما لا يتساقطون عن حلمهم ذاك، ويشدون بنواجدهم على حبل خلاصهم وحريتهم، قد قدّموا خوفهم قربانا مذبوحا مسلّما وتلّه، يفرّون من قدر إلى قدر، لا يساومون به وطنا بوطن.
ومع انطلاقة زورق آخر نحو الشمال المتوسطي، يرتفع منسوب مياه بحر الدموع، كي يغطي جانبا من رمال الجنوب المهاجرة، ويزداد مع كل إشراقة شمس حنينا إلى عرفنا الإنساني والثقافي، إلى شوقنا الأبدي نحو الخلاص من هذه التركة المخيفة، من التزاماتنا اللامتناهية واللامسؤولة، ما عاد الوطن يشكي آلامه، فما أدماه من دمع على أبنائه حزنا، كفيل لأن تقف السّماء مسبحة لما يعرج إليها من أرواح، نبكي حرقة على الإنسان كإله يطلب تابوتا لاسمه، بينما العالم يحتفل بأغان تمجد الزعيم الأوحد، والقائد المهلم والرئيس الأبدي، أيّ أغنية يحفظها جيلنا وجيل من بعدنا، ما دامت القطيعة تتقاذف شظاياها بقايا أنظمة مفلسة بكل مكان، تمزّق لحمتنا الوطنية وتشوّه تراثنا الإسلامي وتنخر جاهدة في وجداننا العربي، هيهات هيهات أن نغني يوما ما «معك يا ريس»، ما لم تهدأ ترانيم البحر تلك.
وأنا أكتب هذه الكلمات مواساة لمن فقدوا في غيابات البحر، إذ يضرب الموت موعدا موجعا للإنسانية، لم ينقض أسبوعان حتى اشتعلت نيران في مركز صحي للأطفال، لا يمكن تخيل حجم المأساة تلك، ساعات حارقة تقضي على سنوات من الانتظار قضاها زوجان شابان يصطبران للأبوة، سنوات كانت كفيلة لبناء مرافق استشفائية جديدة، وإعادة تجهيز الخرب منها، ولكن ما يفعل الله لمفسد بغى في الأرض، سوى أن يأخذه أخذ عزيز مقتدر، عزائي كإنسان قبل كل شيء ومسلم بعدها لضحايا الفشل الأخلاقي والإنساني، وحسبنا من هذا العالم سوى أغنية الموت التي لا كلمات لها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بسم الله الرحمن الرحيم ? السعيد سادن النور النبوي الشريف أبو تاج الحكمة الأول:

    اعترض على العنوان الذي يعج بالوثنية
    بينما المقال كان أكثر من رائع

  2. يقول احمد:

    السيد الشاعر ابو تاج الحكمة.عندك تناقض عندما ترى و تحكم من خلال منظور الدين وانت تركت كل العالم الإسلامي الذي تنتمي إليه و ذهبت لتعيش في بلد غير إسلامي هذا اولا.نحن لا نعيش في زمن الوثنية في زمن الوثنية لم يكن هناك و عي و فكر و ثقافة و أدب و تطور أو أو كما الآن. اعطيك مثال عندما و وقعت مجازر صبرا و شاتيلا في بيروت صحفية أجنبية كتبت كتاب عنوانه؛ الله بكى من بسبب هذه المجازر.والسوال هنا هل الله يبكي؟هل الصحفية شاهدت الله و هو يبكي؟طبعا لا لكن العنوان هو مجاز مثل عنوان هذا المقال.في كل موضوع تدخل الدين الاسلامي و انت فضلت العيش خارج البلاد الإسلامية.

  3. يقول بسم الله الرحمن الرحيم ? السعيد سادن النور النبوي الشريف أبو تاج الحكمة الأول:

    السيد احمد
    اقمت حوارك معي على مسألة وجودي خارج البلاد الاسلاميه والتي هي فوق ارادتي كما هاجر المسلمون الأوائل للحبشه
    عنوان المقال وثني ولم اجد منك ردا حقيقةعلى هذا الموضوع

  4. يقول احمد:

    يوم السبت الماضي على مقال السيدة غادة السمان هاجمت شخصية مغربية لانها قبلت وسام الصليب في اسبانيا ما الحل؟اذا كان شعارهم الصليب هل تريد من الشخصية المغربية و هنا لا أتذكر اسمه هل تريد منه أن يرفض الوسام لأنه لا يتوافق مع الشخص المسلم؟ام يجب على اسبانيا أن تبدل شعارها لكي ترضى انت؟والسيد اليوم صاحب المقال كتب عنوان موت الآلهة هو حر و اختار هذا العنوان والصحفية نشرت المقال و انت قلت اعترض لان هذا لا يوافق ثقافتك و معتقدك الاسلامي .وانت تعيش في فرنسا والشاعر يكون منفتح على الثقافات و ليس متعصب لأجل الدين.

  5. يقول الدكتور جمال البدري:

    إنّ لفظة آلهة ؛ تقال لكلّ ما يشغل الإنسان ويُلهيه عن عبادة الله سبحانه أوعن نفسه وأهله.فهي من اللهو حتى بلوغ التحيير
    كالعشق لا من التأّله والإله ؛ سواء أكانت هذه الآلهة من بشر أو من حجر أو من شجرأو من حيوان…ولهذا سمّت العرب الشمس لما عبدوها الألاهة.لأن العبادة عندهم الألوهة.وجمع آلهة إلاهة.ويقال للحيّة العظيمة المخيفة للنّاس : الإلالهة ؛ قال أفنون ابن معشرالتغلبيّ : { كفى حزنا أنْ يرحل الركب غدوة…وأصبح في عُليا إلالالهة ثاويا }.وهي مغارة في جبل كانوا يلجأؤون إليها من المطر؛ وفيها حيّة عظيمة تنهش الأحياء حتى الموت…وقد نال منها ذلك الشاعرحتى شغلته عن أهله ؛ فتوفي من عضتها.وقبيل وفاته قال شعره أعلاه…وبالتالي عنوان الموضوع المنشور سليم من الناحية اللغويّة ومن الناحية الاعتباريّة والفنيّة.ولا تنسوا أيّها القراء الكرام ؛ أنّ الأخ المحرر الكريم ملّم بالعربيّة ؛ لغته الأم ؛ وله معوان من خبراء اللغة يحرزه من ( الإلاهة ) الحـُـمّ…والسّلام.

  6. يقول بسم الله الرحمن الرحيم ? السعيد سادن النور النبوي الشريف أبو تاج الحكمة الأول:

    ا احمد
    د جمال البدري
    لكم دينكم ولي دين

إشترك في قائمتنا البريدية