لم تشتهر قصيدة «يتيمة الدهر»، في موضوع العشق، لعرضها الإيروتيكي الجزء الحميمي من جسد المرأة الذي يولّد الأخيلةَ فحسبُ، وإنما أكثر من ذلك، كان وراء شهرتِها في الجوهر، البيتان اللذان نبضا بالمتضادات: «فالوَجْهُ مِثْلُ الصُّبْحِ مُبْيَضٌ/ والشَّعْرُ مِثْلُ الليل مُسْوَدُّ/ ضِدَّانِ لمّا استُجْمَعا حَسُنا/ والضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ».
ولم يكن غريباً في قفزة محمود درويش الإبداعية، في موضوع الحصار ومقاومته، بقصيدة «أحمد الزعتر» أن تنبض هذه القصيدة بخفق قلوب ملايين القراء، وأن توزَّع في كاسيتات مهرّبة بين التواقين إلى الحرية في دولة الاستبداد التي ارتكبت مجزرة مخيم تل الزعتر، لو لم تُشعل هذه القصيدة في قلوبهم ما تراكم من استخدام المتضادات في الشعر العربي، نارَ توقٍ وإصرارَ كفاحٍ، من خلال نبض أبياتها بالمتضادات. سرد يبدأ بـ: «ليدين من حجرٍ وزعترْ/ هذا النشيدُ/ لأحمدَ المنسيِّ بين فراشتين»، ويمرّ بـ: «في كلّ شيء كان أحمد يلتقي بنقيضه»، ويتصاعدُ نشيداً حتى الوصول إلى: «يا أيها الولد الموزّع بين نافذتين/ لا تتبادلان رسائلي/ قاوم/ إن التشابه للرمال وأنت للأزرق».
كما لا يكون غريباً في الحقيقة أنْ يتعاظمَ أسرُ الشعرُ للقراء، من تاريخه حتّى يومنا، عندما يُضيء مشدوداً بين قطبين متضادين يُحقّقان قانون الجدل المثير الذي تقوم عليه حياة الكائنات، ويرفعه هيغل إلى السماء قبل أن يُنزله كارل ماركس إلى الأرض، في ما عُرف بـ «وحدة وصراع الأضداد». وفي ما يُعاش من قِبَل الإنسان مشكَّلاً بالتضاد، وصاعداً بأرقى فنونه/ الشِّعر، إلى أقاصي خلخلة حواسه بنشوة الجمال النابض بالحياة في قلب الموت.
ولا يكون غريباً في هذا السياق أن يُدرك الشعراء ما تُذكيه نارُ التضاد في إشعال حرائق الشعر، فيلجأون إلى صقلِ مهارات اكتواء قصائدهم بها، في شتّى الموضوعات التي تنبني عليها مجموعاتهم الشعرية. من مثل موضوع «أرض الخراب» التي يضعها الشاعر المغربي صالح لبريني ثيمةً، في مجموعته الشعرية التي تنبض بالتضاد وتجسيده فلسفةَ حياةٍ وقصيدةً، بدءاً من عنوانها: «أبديةٌ كاملة النقصان»، واستمراراً لتجلية المتضادات، في جميع قصائدها الستة عشر. صراع وتآلف، في المجازات المجسِّدة للحياة والموت، من مثل: الليلِ الذي يتجبّر، والفجرِ الذي يتجمّد، والغربان التي تقيم، في الأرض التي تأبى غبطةُ الشمس دخول قلوبِ أبنائها المظلمة، و«تدين بكامل الخراب»، إلى جانب السنابل والمناجل والظنّ واليقين وملء الجمال والفراغ.
وكذلك في ما يكتنف القصائد من متضادات تُغْنيها، وتجري نهراً، كمثالٍ في قصيدة: «غيمةٌ تحَلّق بعيداً»، عن الصاحب: «الصديق ياسين لكرافس الذي رحل في شموخ»، و«مرّ كما يليقُ حياةً/ يقود الغيم إلى أرضٍ منذورة لِلَّعنات»:
«يتملّى أصواتَنا النابحةَ في وجه الفراغ
أخطاءَنا الناجحةَ في الفشل…
يرعى الأمنياتِ التي وضعناها زينةً
على رفوف الخسارة
الشموسَ التي خبَّأناها خلسةً
عن كيْد المغيب
وعن امتدادِ أبديةٍ كاملة النقصان
ويضحكُ بملء الشَّجى
من هُراء القبيلة
ووِزر البشرية
هو جمعُ الحياةِ
يا صاحِ مفردٌ
وأنت المفردُ الجمع فينا».
متضادات الخراب وفنّ القصيدة:
بخبرةٍ في لملمةِ الواسع الذي لا يُحدُّ مما يكتنف حياة البشر، بموضوعٍ محوريٍّ تنبني عليه مستوياتٌ؛ يصوغ لبريني مجموعتَه، بغنىً يضيع القارئ قليلاً في تدفق صوره، كما في تواتر قوافيه العديدة. لكنّه يجدُ الطريق في الموضوع الذي يتكرّر بالصور والمعاني والمجازات المتلاحقة، حتى النهاية التي تُجسّدها القصيدة الأخيرة المهداة بعنوانها إلى الشاعر الراحل أمجد ناصر، الذي عُرف، وتجسّده القصيدة كذلك، بوقوفه مع ثورات الربيع العربي، والثورة السورية بشكل خاص، ضمن موضوع «أرض الخراب».
في قصيدته «إلى أمجد ناصر» التي يمكن أخذها مثالاً عن محور الخراب، وعن فنّ تكوين القصيدة الطويلة بخاصة في هذه المجموعة، يبني لبريني هذه القصيدة بقسمها إلى مقاطع بأرقامٍ، ويربطُها باللازمة التي تتكرّر فاتحةً للمقاطع: «بوسعَك الآن»، ونأخذ منها الجمل الأولى فحسب، 1: «أن تصفعَ العالمَ بركلةٍ عابثةٍ» 2: «بوسعك الآن: «يا صاحبي في الغواية/ أن تتجهَ صوبَ عزلتك مُتخماً بريح الحيرة/ رفاقُك ألفاظٌ من وجعٍ/ معانٍ تلتحفُ مجازاتِ الدهشة/ تطردُ من سماء الشامِ ليلَ الرصاص/ وتزرعُ في أرض البلاد شقائق النعمان/ ورداً يتحرَّشُ بوجنتيِّ الحبيبة». 3: «بوسعك الآن ألّا تلتفتَ وراءً». 4: «أن تُرتِّب للموتى مائدةَ النشيد». 5: «أن تكسِر ضوءَ النبع على مجرى الظلال/ وتسحبَ القبائل التي أحببتَ من مكائد الخراب/ وتُشعل الكمنجات بنور زرياب». 6: «أنْ تطرقَ باب الحياة بما ملكتَ من حنين». 7: «أنْ تحملَ كنايات العبور/ وتُخلِّف وراءك قبّرات الطيف/ تُغنِّي وجعَ البدايات/ تكتبَ تاريخَ النهايات/ وتُسلّمَ رفيفَ الظلال لمرايا الريح».
وكما في هذه القصيدة وقصيدة «خارج المعنى» التي يتخذ عنوانَها لازمةً، يكرّر لبريني بتنوّع ناجح أسلوب اللازمة: «على هذه الأرض التي لم أخترْها» في قصيدة «ناي الأطلسي»، التي يسردُ فيها حياتَه المتقاطعة بحياة المجموع، بإدراكٍ متولّد عن ثقافةٍ نقدية كما يبدو لذلك، بادئاً بولادته، من دون فرح كوليد محاصر بالسقوط. ثم النمو، حيث: «كبرتُ/ طويتُ مسالك الحياة/ تقودني قدمايَ إلى معبدِ/ نارٍ فاكتويت/ اكتويت بفيض الظنون/ في هذيان اليقين/ وكآبة الأحلام….». ثم عيش الريبة والحيرة: «بين دروبٍ تؤثِّث زينة المتاه/ يمجّدها حنين يقرأ/ ما تيسّرَ من حاشية الليل/ من وحشة أبوابٍ يعربد/ فيها الغياب/ من ارتجاف نوافذ يعشِّش/ فيها النعيب….»
ثم وصْف حاله لنفسه بتكرار اللازمة فاتحةً لكل مقطع، بمتلاحقات، كنتُ: «كنتُ رفيقَ العزلة، حميمَ الغربة، صديقَ الخيبة، قرينَ الألم، نديمَ السأم، ربيبَ الندم». في مقابل المتضاد: «كنتُ قنديلَ العائلة… كنتُ ملحَ العرق الذي/ يُبلِّل جبينَ الحصَّادين/ كنتُ ناي الأطلسي الذي يحرّض/ نوايا الرعيان على الحنين/ كنتُ المطر الذي تأخَّر». و«كنت كاف الكشف/ نون النبع»…
ثم انقسام الذات: «أتوحّد مع عزلة الجبال/ أنفرد بي/ أختلف معي/ أخالف أناي». ثم الانحياز إلى برية الطبيعة. والتصالح مع الذات ومعها. ثم وضْعه ووضع أفكاره، بعد الرحلة، بتكرار اللازمة، مع إضافة كلمتَيْ «لا تعنيني (المعبّرة عن الفلسفة والمفاهيم) جلبةٌ تستلقي على /أرائك العبث/ حروبٌ تروِّض جنودَها على/ عقيدة الجثث». و«تعنيني (المعبّرة عن حياة الطبيعة وكائناتها) أنفاسُ الرمّان وهي/ تغرّد في دمي/ زيتونةٌ وحيدة تلقّنني/ حكمةَ البقاء/ وخيولٌ تركض في ذاكرتي/ يعنيني عصفورٌ يُربك حسابي/ هديلٌ يستفزُّ صولةَ النعيق/ وخريرٌ لا يخوُن ذاكرة الخيزران». ثم يأتي إحساس الشاعر بالحياة، بتكرار اللازمة: «على هذه الأرض التي لم اخترها»/. ثم الأصدقاء، ووضع الشاعر: الآن، أعزل «كجنديٍّ غبيٍّ بلا ذخيرةٍ/ في حرب سخيفة».
إضافة إلى تكراره اللازمة بالجملة، يفتح لبريني لازمةً بالحرف في قصيدة «الخطّابي» التي يمجّد فيها ضمن تمجيد الشهداء، زعيم الثورة الريفية محمد بن عبد الكريم الخطابي/ أسد الريف، أول من ناضل ضد الاستعمارَيْن الإسباني والفرنسي، ونادى باستقلال بلدان المغرب معاً: تونس والمغرب والجزائر، وأطلق جملة «المغرب العربي» عليها. وذلك باستخدام أحرف اسم «عبد الكريم» لازمة للمقاطع.
إدخالات مواجهة الخراب:
كما يفعل الشعراءُ المهتمّون بالتجديد، وفي سياق لازمة الجملة والأحرف، يُدخل لبريني في متضاداته اللغةَ، كمتشابك متواشج ومجسِّد لمعاني الحياة والقصيدة، في دوامة أرض الخراب و«الدوائر التي لا تستقيم في الهواء». ويفعل هذا في قصيدة «ناي الأطلسي»، التي يُدخل فيها اللغة بمطحنة الإحباطات: «في غيبوبة السؤال/ بحداد المجاز/ في جنازة اللغة/ وغربةِ الحروف/ في تجبّر الخراب». ويصل بها إلى ما يطمح الشعر من مغايرة واختلاف وابتكارِ «أبجدية أخرى»، في القصيدة التي تحمل هذا العنوان، «نكايةً بالحياة» وكنايةً عن رفض عالمه الموجود واقعاً، حيث: «سأسمي الطريقَ غيمةً/ تُرتِّب السنابلَ على سرير السهوب.»… واليدَ تخطّ وتمحو/ تمحو وتخطّ لغةً ثانيةً/ لغتي التي تنزعُ الأقفاصَ من ذاكرة الطير/ التي تقتل السيف في رأس طَرَفة بن العبد/ وترعى وهْج الخيال/ في/ نصٍّ/ خارج/ السياج».
وفي متضاداته كذلك يُدخل لبريني المرأةَ مضاداً ماحياً للخراب، على الأرض التي لم يخترها، في حنينه إليها، حيث: «يقرأ ما تبقَّى من رقَّة نساءٍ/ يُسبّحن بآهات خريفٍ/ يندبُ حظّه/ يحفظْن عن ظهر سريرةٍ/ بهجةَ الأقحوان/ دهشةَ البيلسان/ يقظةَ الذكريات/ في مروجٍ يتعهدها/ عويل النزيف….». مثلما يُدخِلها مانحةً للإحساس بالحياة، وفقَ فلسفة المعرّي في لا جدوى ما يكتنف الحياة، والاختلاف عنها بـ: عشقِ الحياة، مع الأب، الأم، الجَدّة، الحبيبة: «الخديجةُ السّميرةُ النجاةُ/ والنساءُ اللواتي طوَّقْنَني محبّةً/ في عزّ المنفى/ ونشوةِ القراح».
وفي متضاداته التي تجمع اللغة والمرأة والقصيدة والمفاهيم، يتداخل لبريني مع الطبيعة كابن لها، حيث:
«أنفخ ناي الحياة بحرائق السؤال
وألوي مزهواً بعزلة التلال
ترافقني وعولُ اللّيل
قُبَّرات الفِجَاج/ غزالاتُ الأعالي
إلى حيثُ النهرُ يطردُ رمل الخريف».
وفي الختام دون نسيانِ التداخل مع التراث القرآني في وضع مريم بظلِّ النخلة لتهزّها رُطَباً جنيا، والمسيحي في ترتيب العشاء الأخير للأصدقاء، والصوفيّة باللغة السّاعية إلى النور: «أجلد الوقتَ بما تيسّر من نشيدِ الأوتار/ علَّني/ أخوضُ حروبي بذخيرة الحبِّ/ بخططٍ حميميةٍ/ بأنفاسِ قيسٍ/ وحيرةِ جميلٍ/ وصداقةِ مجنون ليلى/ وأزرع الحياةَ بما يليق بالحياة».
صالح لبريني: «أبدية كاملة النقصان»
منشورات دائرة الثقافة: الشارقة 2024
105 صفحة.